مستقبل الدولار

كتب الاقتصادي الأميركي والأستاذ في جامعة هارفارد، ريتشارد كوبرRichard Cooper، مقالاً في العام 2009 يقول فيه إن أزمة العملة الدولية (التي حصلت بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008)، قد تدفع كثيرا من الدول الحاملة للدولارات والأدوات المالية الصادرة بالعملة الأميركية إلى التخلص منها، وشراء وسائل أخرى، مما يعرّض الدولار لهبوط حاد في سعر تبادله مع الذهب والعملات الأخرى.

ويعزز هذا التوجه هو أن الولايات المتحدة مضطرّة باستمرار إلى الاعتماد في تمويل اقتصادها على العجز في موازنتها العامة، وفي ميزانها التجاري.

ولقد تكون الظروف التي تحدث عنها كوبر عام 2009 لم تتحقق بالطريقة التي تحدّث عنها، ولكن لو أتيحت له إعادة كتابة ما قاله قبل 11 عاماً، فلربما سيكرر نفسه. هنالك مخاوف على الولايات المتحدة، ونظامها السياسي، واستقرارها الداخلي. ولا شك أن بعض الاقتصاديين والمحللين السياسيين الأميركيين من يعتقد أن مجريات الأمور في ذلك البلد العملاق تسير نحو ذلك المصير.

سياسياً، يبدي محلل معارض للرئيس دونالد ترامب، وهو ثوماس فريدمان من صحيفة نيويورك تايمز، قلقه من أن رفض رئيس الولايات المتحدة الحالي نتيجة الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها يوم 3 نوفمبر المقبل، في حال فشله في الفوز بها، سيؤدي إلى كارثة وطنية، لأنه سوف يحتج على النتيجة، ولن يقبل بها. والسبب هو اعتقاده أن خسارته لن تحصل إلا إذا حصل غشٌ وتَدَخلٌ في عملية الانتخاب لصالح خصمه ومنافسة الديمقراطي جو بايدن.
وإذا رفعت القضية إلى محكمة العدل العليا الأميركية، وقرّرت لصالح ترامب، فإن الحزب الفائز لن يقبل بذلك، ما قد يفتح أبواب جهنم، فالمجتمع الأميركي يبدو منقسماً على نفسه انقساماً حادّاً في أمور كثيرة، أهمها السلوكيات الجنسية، والسماح بالإجهاض مِنْ عَدَمِهِ، والتأمين الصحي الذي شرع أيام الرئيس السابق باراك أوباما، ويرفضه الجمهوريون رفضاً شبه كامل، والضريبة المخفضة على الأغنياء، وغيرها من قضايا مثل حمل السلاح من عدمه.

وإذا نجحت مرشحة الرئيس ترامب، إيمي كوني باريت، المعروفة بمواقفها المحافظة، في أن تصبح قاضية في محكمة العدل العليا، فإن الأكثرية (خمسة من تسعة قضاة) سيكونون محافظين وأربعة ليبراليين. إن الخشية والحالة هذه أن يصوّت هؤلاء في حالة وصول قضية الانتخابات القادمة إليهم ليحكموا فيها، فإن موقفهم سيكون منحازاً للرئيس الحالي، دونالد ترامب.

ومثل هذا القلق السياسي سوف يعزّز المخاوف من دخول الاقتصاد الأميركي في حالة ركود عميق. وحسب التوقعات، فإن معدل النمو للعام الجاري 2020 سيكون سالب 4% تقريباً.

وإذا بدأت الدولارات التي أصدرت (6 تريليونات حتى الآن، واثنان على الطريق)، في التفاعل كأموال فائضة لا يقابلها إنتاج سلعي أو خدمي، أو طلب فعّال، فمن المحتمل أن يدخل الاقتصاد الأميركي في حالة تضخم، من دون أن يؤدي ذلك إلى زيادة فرص العمل. وإن حصل هذا، فسوف يدخل الاقتصاد الأميركي في دورة “الكساد التضخمي”، وسيجر العالم معه إلى ذلك الطريق.

وبالطبع، فإن اجتماع المخاطر السياسية والاقتصادية سيجعلان أهلية الاقتصاد الأميركي للاقتراض أقل موثوقية. وسوف نرى في حينها مزيداً من الإقبال على الاستثمار في الذهب، أو العملة الصينية، أو نداءات من أجل إعادة النظر في الدولار كعملة الاحتياط الأساسية في العالم.

وفي حالة فوز الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات المقبلة، وحافظ، في الوقت نفسه، على أغلبية ضئيلة في مجلس الشيوخ، فإن حربه الاقتصادية والتجارية مع الصين سوف تستمر، ولربما بدرجة حرارة أعلى مما هي عليه الآن.

ويرى المراقب أن حرب العملات قد تراجعت حالياً لصالح الحرب التكنولوجية التي تشنها الولايات المتحدة على شركات هواوي، وتيك توك، و”وي تشات we chat” الصينية، وسنرى هذه الحرب تمتد إلى شركة علي بابا للتجارة الإلكترونية والفضاء، والنانو تكنولوجي، وغيرها من التكنولوجيات الصينية رفيعة المستوى.

وسوف تستعر الحرب التجارية والتكنولوجية بين واشنطن وبكين. وقد نرى بوادر ازدواجية تجارية عالمية، حيث ينقسم العالم إلى كتلة محورها الصين، وأخرى محورها الولايات المتحدة. وسوف تستخدم الولايات المتحدة كل ما لديها من وسائل وأرصدة، لتهديد المتعاملين مع الصين، ولكن تجربة مقاطعة إيران لم تلق التأييد الذي كانت ترجوه الإدارة الأميركية. وإذا كان ذلك مؤشّراً، فإن احتمالات التدخل العسكري لقطع طرق التجارة وقنواتها سيصبح أعلى وأشد وطأة.

وبالطبع، هنالك اقتصاديون أميركيون مثل جيفري ساكس Jeffrey Sachs صاحب كتاب “بناء الاقتصاد الأميركي ليكون ذكياً، منصفاً ودائماً”. وهو ناقد لاذع في مقالاته ومقابلاته للرئيس ترامب، ويصفه بصفاتٍ ليس من اللياقة أن نكررها هنا. ولكنه اقتصادي مرموق في جامعة كولومبيا، ويتنبأ بأن سياسات ترامب الاقتصادية ستؤدي إلى تعميق الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وإلى تراجع معدّلات التنمية المستدامة، بسبب سياساته المعادية للبيئة، وسوف تسبب تشويشاً كبيراً في التدفقات التجارية والخدمية الدولية.

وهنالك بالطبع اقتصاديون آخرون يعتقدون أن أسلوب الرئيس ترامب في التدخل في سياسة مجلس الاحتياط الفيدرالي “البنك المركزي الأميركي” النقدية، وعدم المبالاة بحجم المديونية العامة أو بالعجز في الموازنة العامة، وبسبب اهتمامه بالشركات التي تنتج النفط والسلاح والصناعات الملوثة، وعدم اكتراثه بمجريات الاقتصاد العالمي على أساس شعاره “أميركا أولاً”، سوف تنكر على الولايات المتحدة مركزها أن تكون أكبر قوة اقتصادية في العالم، وسوف يراكم عليها الخصومات مع الدول، وسيعزلها في نهاية المطاف.

سياسات التنمر سوف تجد مقاومة متصاعدة ضد الولايات المتحدة. وسيكون الدولار رمز قوة الاقتصاد الأميركي وصخرته، عرضة للاهتزاز وفقدان الثقة، والتراجع كعملة احتياطي موثوقة.

مستقبل الدولار غامض، والدول التي تحمل أرصدة بالعملة الأميركية ستجد نفسها مضطرّة لمراجعة هذا الوضع بعيداً عن الدولار، وبحثاً عن بدائله.

 

 

مصدرالعربي الجديد - جواد العناني
المادة السابقةمعهد البحوث الصناعية أصدر أعمال تقييم المطابقة على المنتجات المستوردة
المقالة القادمةتلميحات إلى «إعادة برمجة» مستهدَف التضخم الأوروبي