مشاكل الكهرباء وانهيار الإدارات: مصرف لبنان تمسّك بالإصلاحات

تُساق منذ نحو أسبوعين وربّما أكثر حملة ضدّ مصرف لبنان، تتّهمه بخنق الاقتصاد وحجب الأموال عن الحكومة ومنعها من الإنفاق وتقديم الخدمات للمواطنين اللبنانيين. وجدت هذه الحملة ضالّتها تحديداً في “الحساب 36” الخاصّ بالحكومة لدى مصرف لبنان، حيث تتراكم أموال الجباية منذ أشهر وتصل اليوم إلى ما يعادل بالدولار الأميركي قرابة 4.77 مليارات دولار… فهل المصرف هو المسؤول عن انقطاع تيار الكهرباء ووضع الطرق السيّئ وانهيار التعليم الرسمي والطبابة وإقفال الإدارات العامة؟

منظّمو الحملة ضدّ مصرف لبنان، من بين الناشطين وبعض الخبراء الاقتصاديين، يعتبرون أنّ هذه الأموال “حقّ” للشعب اللبناني، ولا يمكن لمصرف لبنان أن يحجبها أو يمنع إنفاقها. في نظرهم، ليس استقرار سعر صرف الدولار، الذي نجح المصرف المركزي في فرضه منذ رحيل الحاكم السابق رياض سلامة إلى اليوم، أهمّ من تقديم خدمات مثل الكهرباء والإنترنت أو تزفيت الطرقات وإنارتها أو دعم التعليم والطبابة والإدارات العامة المقفلة أو شبه المعطّلة… وكأنّ مصرف لبنان لا الحكومة هي الجهة المسؤولة عن توفير تلك الخدمات للّبنانيين، أو كأنّ المقصود الإيحاء بأنّه هو من يمنع تقديمها.

فهل هذه الاتّهامات بحقّ مصرف لبنان في مكانها فعلاً؟ هل يحجب مصرف لبنان الأموال عن الحكومة أو يمنعها من التصرّف بأموالها الخاصّة؟

“لولار” وفريش وشيكات بالليرة

الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى التدقيق في آليّات عمل مصرف لبنان، وكذلك في الاتّفاق المعقود بين “المركزي” ووزارة المال لضبط سعر الصرف، مع التذكير بجملة من المعطيات التي تبدو أنّها غائبة عن بال المعترضين.

1- إنّ الإنفاق في كلّ الحكومات لا يحصل بشكل عشوائي أو عند الحاجة، بل هو مضبوط بموجب الموازنة وتقديراتها عن كلّ سنة مقبلة، التي ترسمها الوزارات نفسها بالتنسيق مع وزارة المال. وبالتالي ليست الحكومة حرّة في الإنفاق عشوائياً حتى لو كان من أموال جباياتها. وما يحصل اليوم هو أنّ أغلب الوزارات والإدارات العامّة تقفز من فوق الموازنة وبنودها وتطالب بالأموال من “الحساب 36” مباشرةً.

2- إنّ الرقم الذي يلحظه مصرف لبنان في ميزانيّته (ما يعادل 4.77 مليارات دولار) ليس كلّه بالدولار الأميركي “الفريش”، وإنّما مقوّم بالعملة الأميركية، وبينه ما هو “لولار” حصلت عليه الدولة من خلال شيكات مصرفية لقاء دفع رسوم وضرائب، وبينه كذلك شيكات بالليرة المحتجزة، وليرة لبنانية “فريش”، ودولار “فريش”. وبالتالي الإشارة إلى هذا الرقم على أنّه كاملاً بالدولار “الفريش” غير صحيح.

المصرف يرفض مخالفة القانون

3- إنّ الخلاف بين مصرف لبنان وبعض الوزارات حول مواضيع إنفاقيّة (مثل وزارة الطاقة والتهديد بانقطاع التيار الكهربائي مثلاً نتيجة رفض مصرف لبنان تمويل شراء الفيول من “الحساب 36”) سببه عدم لحظ تلك النفقات في موازنة عام 2024. وبالتالي حينما يرفض مصرف لبنان الدفع بلا مسوّغ قانوني من الحساب المذكور، فهو يرفض ارتكاب مخالفة قانونية. على سبيل المثال، أعلن وزير الطاقة وليد فياض أنّ مجلس النواب مُطالَب بإقرار قانون يجيز لمصرف لبنان أن يحوّل أموالاً لدفع كلفة الوقود العراقي من الحساب 36.

أمّا الطريف في هذا الأمر هو أنّ المعترضين أنفسهم يتحدّثون في الوقت ذاته عن أهمّية قطع حساب الموازنات، ويُنظّرون غالباً حول ضرورة ضبط السلوك الماليّ العشوائي ومكافحة الفوضى التي كانت تُدار بها ماليّة الدولة بعيداً عن معايير الشفافية.

4- إنّ البلاد تعيش في حالة حرب منذ ما يزيد على 9 أشهر. وقد تسبّبت تلك الحرب بالخراب في جنوب لبنان، وأدّت إلى تراجع دوران العجلة الاقتصادية في كلّ لبنان على الرغم من مظاهر الترف والسياحة التي نراها خلال فصل الصيف. وبالتالي يجب أن لا “يسكر” البعض ويظنّ أنّ البلاد في حال طبيعية، بل في حالة حرب مهدّدة بالتوسّع والتحوّل إلى مواجهة مفتوحة في أيّ لحظة… وهذا بلا شكّ له مفاعيل اقتصادية ونقدية قد تؤثّر على سعر صرف الدولار باعتباره الإنجاز الوحيد لمصرف لبنان. كما أنّ مراكمة الاحتياطات بالعملة الأجنبية هي حماية إضافية للاستقرار وتعزيز للتوظيفات الإلزامية، أي لأموال المودعين الذين هم أنفسهم (المعترضون) يطالبون باستعادتها.

انهيار الطّلب على اللّيرة اللّبنانيّة

5– منذ الفصل الأوّل من العام الفائت 2023، تحوّلت الليرة اللبنانية بفعل “دولرة” الأسعار إلى عملة الإدارة اللبنانية، ولم تعد عملة لبنان. يلجأ إليها المواطنون اللبنانيون من أجل دفع بعض الرسوم وبعض الضرائب. إذ تشير تقديرات وزارة الاقتصاد إلى أنّ 70% تقريباً من الاستهلاك يدفعه المواطنون بالدولار “الفريش” (90% في المطاعم والمقاهي، 85% في السوبرماركت ومحلات البقالة، 35% في محطات الوقود) بينما النسبة الباقية (30%) تُدفع بالليرة اللبنانية… وهذا يعني أنّ قدرة مصرف لبنان على التدخّل في السوق لم تعد نفسها كما كانت قبل عام 2023، وذلك لعدم وجود طلب على الليرة اللبنانية إلا في حالات دفع الأموال للدولة فقط.

6- النقطة أعلاه، تحيلنا حتماً إلى اتفاق الـgentlemen المعقود بين مصرف لبنان ووزارة المالية شفهياً، والذي يقضي بضرورة التنسيق بين الطرفين قبل إقدام وزارة المالية على دفع أيّ استحقاق أو نفقة كبيرة الحجم، تلافياً لإغراق السوق بالليرات، وبالتالي تهديد سعر الصرف.

تلك الآلية ينفّذها مصرف لبنان من خلال التدخّل المسبق في السوق من أجل تحضير أرضية الدفع، وذلك عبر تجفيف الليرات من السوق بحجم الدفعة المستحقّة نفسها على وزارة المال… وهذا التدخّل مرهون طبعاً بقدر يوميّ محدّد من الدولارات، حيث تكشف تقديرات جهات ضالعة بهذه العملية أنّه لا يتعدّى 6 ملايين دولار يومياً في معدّله الوسطي، ينخفض إلى أقلّ من ذلك خلال فصل الشتاء ويرتفع قليلاً في الصيف نتيجة تدفّق الدولارات إلى الداخل اللبناني من السيّاح والمغتربين.

أمّا ما يحصل ويعتبره البعض “كارثة الكوارث”، فإنّ جلّ ما ينتج عنه لكلّ الأسباب المذكورة أعلاه هو تأخير تقنيّ بسيط في عمليات إنفاق الحكومة نتيجة “أمر واقع” فرضته الأزمة الاقتصادية، بينما تستمرّ الحكومة بتقاعسها. كما لا يعني ذلك بأيّ حال من الأحوال أنّ مصرف لبنان هو الجهة التي تقف خلف هذا التقاعس، وإنّما سببه السلطة وتأخّرها ببتّ الإصلاحات، التي ستكون كفيلة في حال طُبّقت بتبديد مفاعيل ذلك كلّه.

 

مصدرأساس ميديا - عماد الشدياق
المادة السابقةميقاتي إلى بغداد: انتهاء “التذاكي” بمستحقات العراق أو العتمة
المقالة القادمة“دراق البقاع” يُنازع البقاء بسبب المنافسة والأسعار العالمية