فيما تنشغل البلاد بمخاض الانتخابات البلديّة والاختياريّة، دخل مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي مرحلةً حسّاسة وخطيرة يوم أمس الأربعاء، بعد جلسة لجنة المال والموازنة. وأهم ما في تلك الجلسة لم يقتصر على إحالة مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف إلى لجنة فرعيّة ستخصّص بدراسته، بل شمل كذلك إفصاح حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، عن رؤيته العامّة للحل المالي الشامل، والتي يفترض أن تترجمها مسودّة قانون الانتظام المالي، الذي يعمل عليه مصرف لبنان حاليًا. وخلال الأسابيع المقبلة، سيكون المشروع بأسره، وقوامه قانونيّ إصلاح أوضاع المصارف والانتظام المالي، أمام سيناريوهين: إمّا المضي بوضع الإطار التشريعي الكامل والشامل لعمليّة إعادة الهيكلة، أو تعثّر المسار بأسره وإرجاء البت به لما بعد الانتخابات النيابيّة المقبلة. هكذا، بتنا اليوم أمام مرحلة حاسمة.
وهنا، قبل الخوض بتفاصيل ما جرى أمس، من المهم التذكير بالفصل الذي قامت به الحكومة مؤخرًا بين مشروعيّ القانونين. فمشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف يركز حصراً بمسألة الصلاحيّات المرتبطة بالهيئة المصرفيّة العليا ولجنة الرقابة على المصارف داخل مصرف لبنان، بما يشمل كيفيّة تنظيم عمليّات الدمج والتصفية وإصلاح أوضاع المصارف. وهذا ما استكملت لجنة المال والموازنة نقاشه بالأمس، قبل إحالة المشروع إلى اللجنة الفرعيّة. أمّا قانون الانتظام المالي، الذي يعمل مصرف لبنان على إطاره العام حاليًا، فسيخص بمسألة توزيع الخسائر وكيفيّة التعامل مع أزمة الودائع الراهنة، ما يجعله –وبخلاف القانون الأوّل- تشريعاً استثنائيًا يهدف للتعامل مع الأزمة الحاليّة حصرًا.
سجال “الأزمة النظاميّة”
تركز الجزء الأكبر من السجال في جلسة لجنة المال والموازنة السابقة، قبل جلسة يوم أمس، حول أحجية مفهوم “الأزمة النظاميّة”، الذي طالب مصرف لبنان –ومن قبله جمعيّة المصارف– باعتماده لتشخيص الأزمة الراهنة. فهل هذا المفهوم يعني أنّ مسببات الأزمة ترتبط بالنظام المالي نفسه، لا بالمصارف؟ أم هو الجنوح نحو معالجات تحمّل المال العام كلفة إنقاذ المصارف، بدل التركيز على مسارات تحمّل أصحاب المصارف كلفة إعادة رسملة مصارفهم؟ وماذا هو هذا المفهوم أصلًا؟
لهذا السبب، كان من الطبيعي أن تتركّز مداخلات حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، يوم أمس، على إيضاح المقصود بهذا المفهوم أمام النوّاب. بالنسبة لسعيد، تعريف الأزمة بكونها “نظاميّة” يعكس شموليّتها، أي تمدّدها لتطال تأثيرها جميع مفاصل النظام المالي. وهذه المسألة لا ترتبط بتوزيع المسؤوليّات أو المسببات، ولا تعكس نفياً لمسؤوليّة أحد، بما في ذلك أصحاب المصارف، بخصوص المخالفات التي أفضت إلى حصول الأزمة. أهميّة اعتماد هذا المصطلح، بالنسبة له، ترتبط بكونه المفهوم الذي يبرّر اعتماد تشريعات استثنائيّة، للتعامل مع الأزمة المصرفيّة القائمة. ومن دون هذا التشخيص، لا يمكن لمجلس النوّاب أن يبرّر أمام الأسواق أو الخارج اللجوء إلى معالجات فوق العادة، لتجاوز ما جرى منذ العام 2019. تشخيص الأزمة بشموليّتها، يعطي الغطاء للتشريعات التي سيعتمدها البرلمان مستقبلًا.
كان كلام سعيد –في هذا الجانب بالتحديد- مطمئنًا لبعض النواب الأكثر حرصًا على التقليل من حجم الخسائر التي سيتم تحميلها للدولة، خصوصًا أن “تحميلها للدولة” سيعني تحويل الودائع إلى ديون عامّة دفعة واحدة، من دون سدادها مستقبلًا، ومع إغراق الدولة بالتزامات لن تقوى على تحمّلها. هذا ما يرفضه صندوق النقد، وهذا ما يخرج عن المألوف والمعايير المعتمدة في عمليّات “الإنقاذ المصرفي” منذ العام 2008. وهذا أيضًا ما رفضه كريم سعيد داخل الجلسة، الذي أكّد أمام النوّاب أنّه لا يؤيّد مفهوم “مسؤوليّة الدولة” بهذا الشكل النافر (والذي تطالب به جمعيّة المصارف منذ العام 2020 بالمناسبة). بل كان سعيد مؤيّدًا لفكرة الحد من تحميل الدولة كتلة الخسائر، وضمن حدود قدرة الدولة ومسؤوليّتها.
كانت هذه الأجواء صادمة لبعض المتابعين، الذين توقّعوا من سعيد كلامًا أو موقفًا آخر إزاء مسألة توزيع الخسائر، انطلاقًا من “دراسة هارفرد” التي ساهم بتمويلها قبل تعيينه في منصبه، والتي أثارت خوف البعض من هذا التعيين (تذهب الدراسة لاقتراح معالجات معاكسة تمامًا لما قاله يوم أمس). ثمّة من ربط كلام سعيد بالأمس بالضغط الخارجي، وخصوصًا من جانب صندوق النقد الذي يطرح معالجات تتبناها الدول المانحة. وهناك من رأى أن الرجل درس ملفّاته بعد تعيينه، ولم يكن مضطرًا لاعتماد خلاصات دراسة جرى إعدادها قبل أن يحتلّ موقعًا رسميًا يتفرّغ فيه لصياغة المعالجات. بمعزل عن التفسيرات، أفصح سعيد بالأمس عن موقف أكثر توازنًا مما كان متوقعًا.
لكن في جميع الأحوال، لم يكن سعيد بعيدًا في موقفه هنا عن موقف وزير الماليّة ياسين جابر، أو التوجّهات الحكوميّة العامّة بما يخص عمليّة توزيع الخسائر، أو حتّى عن رؤية صندوق النقد العامّة لمسألة “مسؤوليّة الدولة” (من دون أن ينفي ذلك وجود تباينات كبيرة في مواضع أخرى سنتطرّق لها لاحقًا في هذا المقال).
اللجنة الفرعيّة
قرّر رئيس اللجنة إبراهيم كنعان خلال الجلسة الضغط باتجاه إحالة قانون إصلاح أوضاع المصارف إلى لجنة فرعيّة، كما حاول الإيحاء بأنّه يريد حصر النقاش هناك بعدد محدود من النوّاب. وهدف اللجنة المعلن، كما أعلنه رئيسها –كنعان نفسه- ردم الهوّة ما بين رأي وزارة المال ومصرف لبنان بخصوص مشروع القانون، والتي يتحدّث عنها كنعان هنا ترتبط بصلاحيّات الهيئة المصرفيّة العليا، ولجنة الرقابة على المصارف، كما وردت في مشروع القانون.
يرى مصرف لبنان –أو بالأحرى حاكمه- أنّ مشروع القانون يقلّص من استقلاليّة المصرف إلى حدٍ بعيد، بفعل الصلاحيّات الواسعة التي أعطاها للهيئة المصرفيّة العليا في عمليّة البت بمصير كل مصرف تجاري خلال عمليّة إعادة الهيكلة، وللجنة الرقابة على المصارف عند إرسال توصياتها إلى الهيئة مباشرةً، بعد تدقيق أوضاع المصارف. ويبالغ حاكم مصرف لبنان بالاستناد إلى ما ورد في مقدّمة الدستور، للحديث عن استقلاليّة السلطات وتعاونها، بما يضع المصرف كسلطة مستقلًة وموازية للسلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة (وهذا موقف غير مألوف دستوريًا وقانونيًا).
بهذا المعنى، ورغم مرونة موقف الحاكم إزاء مسألة توزيع المسؤوليّات، وفقًا لرؤية الحكومة، يبدو في الموقع النقيض تماماً بخصوص الجانب المرتبط بصلاحيّة الهيئات التقريريّة والرقابيّة داخل مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ مسألة إعادة تحديد هذه الصلاحيّات، كما وردت في مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، لم تأتِ من عدم، بل فرضتها مواضع الخلل التي ظهرت من خلال أداء الحاكم السابق، الذي أضحى “امبراطورًا” داخل المصرف، بجمعه صلاحيّات متعارضة وبمهام تتكدّس فيها أوجه تضارب المصالح.
في المحصلة، باتت الأمور مهيأة اليوم للدخول في النقاشات التقنيّة الحاسمة، فيما جاءت زيارة رئيس الجمهوريّة جوزاف عون للمصرف المركزي اليوم، بمثابة رسالة دعم لحاكمه على أعتاب بدء هذه النقاشات. كثيرون يتخوّفون أن تكون اللجنة الفرعيّة “مقبرة” لمشروع القانون، بذريعة التباينات بين موقف مصرف لبنان ورأي وزارة الماليّة. في حين يراهن البعض على الضغط الخارجي مجددًا لتسريع العمل على إقرار القانون، كما جرى في حالة قانون رفع السريّة المصرفيّة. أمّا الأهم، فهو أنّ رأي مصرف لبنان، بخصوص عمليّة توزيع الخسائر (التي سينص عليها قانون التوازن المالي)، لا يوحي بالاتجاه نحو صدامٍ حاد بين الحكومة والمصرف في هذه المسألة، ما يبشّر بإمكانيّة اتفاق الطرفين على حل ما بعد تذليل العقبات المرتبطة بالقانون الأوّل (إصلاح أوضاع المصارف).