يستعد لبنان لاستقبال بعثة صندوق النقد الدولي قبل نهاية الشهر الحالي، فيما تمّ ربط موعد هذه الزيارة باستعداد الحكومة اللبنانيّة لاستقبال أولى مسودّات مشروع قانون الانتظام المالي، أو قانون الفجوة الماليّة كما بات يُعرف محليًا. ومن المعلوم أن بعثة الصندوق كانت قد عبّرت عن تطلّعها، في آخر زياراتها إلى لبنان، لبدء مناقشة هذه المسودّة في الحكومة خلال شهر أيلول، لتمكين البرلمان من مناقشة مشروع القانون قبل نهاية السنة. مع الإشارة إلى أنّ تحضير هذه المسودّة يتم من خلال التنسيق ما بين وزارتيّ الماليّة والاقتصاد من جهة، ومصرف لبنان من جهة أخرى، مع دور أساسي للمصرف في وضع المقاربات العامّة للمشروع.
قد يكون من المبكر الحكم على مشروع القانون برمّته، قبل رؤية المسودّة الكاملة المطروحة أمام الحكومة، بل وقبل معرفة التعديلات التي ستقرّها الحكومة على المشروع قبل إرساله إلى مجلس النوّاب. لكن في الوقت نفسه، بات بالإمكان الآن وضع بعض الملاحظات الأوليّة والمخاوف المشروعة، بعد أن تسرّبت بعض المقاربات التي يتبنّاها مصرف لبنان، عبر الأوساط المقرّبة منه، أو من خلال مصرفيين ناقشوا هذه المقاربات مع المصرف. وقد يكون من المفيد مناقشة هذه الهواجس، استعدادًا للنقاش الأوسع المرتبط بمشروع القانون.
الودائع المحوّلة من ليرة إلى دولار
أصبح من الواضح إصرار مصرف لبنان على تمييز الودائع التي تم تحويلها من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار الأميركي بسعر الصرف الرسمي، على أن يتم تسديد هذه الأموال بسعر صرف خاص، قد لا يوازي أكثر من 30 بالمئة من سعر الصرف الرائج حاليًا في السوق.
وقد يكون من البديهي القول إنّ العدالة تقتضي معاملة كهذه، حين يتعلّق الأمر بأصحاب الودائع الكبيرة، التي تعود لنافذين تمكنوا من شراء الدولارات المصرفيّة بسعر الصرف الرسمي، بشكلٍ استنسابي، بعد حصول الأزمة، بهدف تحقيق كسب مادي على المدى الطويل.
غير أنّ العدالة تقتضي أيضًا لحظ فئات أخرى من المودعين، من أصحاب تعويضات نهاية الخدمة، الذين أجبروا من قبل المصارف على تحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار، ومن ثم تجميدها، لتعذّر سحبها نقدًا بالليرة دفعة واحدة. ولو سُمح لهؤلاء بسحب تعويضاتهم أو أموالهم بالليرة، في بدايات الأزمة، لكان بإمكانهم تقليص خسارتهم عبر شراء الدولارات النقديّة من السوق الموازية، قبل أن تتفاقم أزمة سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
بهذا المعنى، ورغم أهميّة تمييز الأموال المحوّلة استنسابيًا من الليرة إلى الدولار، لا يفترض معاملة كل الودائع الناتجة عن عمليّات صرف، بالطريقة نفسها. وقد يكون من المفيد اعتماد معايير معيّنة لتصنيف هذا النوع من الودائع، إما بحسب حجمها أو مصدر الأموال التي تم استعمالها لشراء الدولارات المصرفيّة.
الحد المضمون من الوديعة
الرقم المتداول، للحد المضمون من الودائع “المؤهلة”، هو مئة ألف دولار أميركي. لكنّ ثمّة إشكاليّة مهمّة هنا، إذ تسرّبت معطيات توحي بأنّ ما سيتم ضمانه هو فقط “الودائع التي تقل قيمتها، أو تساوي، مئة ألف دولار أميركي”، وليس “كل وديعة لغاية مئة ألف دولار أميركي”. وبهذا الشكل، إذا كانت هناك وديعة تبلغ قيمتها حاليًا 105 ألف دولار أميركي، فستحال تلقائيًا -وبرمّتها- إلى مصاف الودائع غير المضمونة، بدل أن يتم ضمان مئة ألف دولار، ومن ثمّ إحالة خمسة آلاف دولار إلى مصاف الودائع غير المضمونة.
إذا حُسمت المسألة على هذا النحو، فستنطوي العمليّة على إجحاف بالغ بحق المودعين. إذ سيتم حرمان نسبة كبيرة من الودائع من الهامش المضمون، لمجرّد تخطيها حد المئة ألف دولار أميركي، ولو ببضعة دولارات. وهذا الإجراء سيسمح لمصرف لبنان بتقليص كلفة ضمان الودائع، لكن على حساب المودعين.
ومن المهم التنويه هنا إلى أنّ العديد من المصادر تؤكّد أنّ هذه المسألة ليست محسومة بعد. غير أنّ التوجّه العام الذي يتبنّاه مصرف لبنان يذهب نحو المقاربة التي تحدّثنا عنها.
الودائع غير المؤهّلة
أصبح من الثابت أن مصرف لبنان عاد لتبنّي مفهوم الودائع غير المؤهّلة، بوصفها الودائع التي تنقّلت بين حسابات مختلفة داخل لبنان بعد تشرين الأوّل 2019. وبحسب جميع المصادر المتابعة للمشروع، سيتم تخفيض سقف ضمان هذه الودائع، كما سيتم تطبيق اقتطاعات بنسب مختلفة من الودائع، بحسب تاريخ تحويلها إلى الحساب المعني. ويبرّر مصرف لبنان هذا التوجّه بأن هذه الودائع هي نتاج تبادل أو تجارة الشيكات، ما يعفيه من تسديد تلك الدولارات بقيمتها الفعليّة.
مشكلة هذا التوجّه، تكمن في تعميم صفة “الأموال الناتجة عن تجارة الشيكات” على جميع الدولارات المحليّة المصنّفة على أنّها “ودائع غير مؤهلة”. فجزء كبير من هذه الأموال، التي تحرمها المصارف حاليًا من الاستفادة من التعميم 158، نتج عن دفعات مستحقة لتجار، أو كان حصيلة برامج ادخاريّة استعادها المودعون في حساباتهم. وعليه، يقتضي تمييز هذه الأموال بحسب مصدرها، قبل اعتبارها “ودائع غير مؤهلة خاضعة للاقتطاع”.
السندات وعامل الزمن
وفقًا لوزير المال ياسين جابر، سيتم تحويل جزء من الودائع غير المضمونة إلى سندات دين، فيما تشير المصادر المتابعة للمشروع إلى أنّ هذه السندات ستكون “مضمونة” من قبل مصرف لبنان، كما ستتراوح فترة استحقاقاتها بين 15 و25 سنة. المشكلة الأساسيّة هنا، هي أنّ القيمة الحاليّة لهذه السندات، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عامل الزمن، قد لا تتجاوز 10 بالمئة من قيمتها الإسميّة.
وعلى أي حال، لا يوجد ما يضمن مستوى القيمة الشرائيّة للدولار نفسه، على امتداد العقود المقبلة، في ظل معدلات التضخّم العالميّة المتذبذبة، والسياسات النقديّة التي لا يمكن التنبّؤ بها في واشنطن. ومن المعلوم أن ارتفاع حجم الدين السيادي في الولايات المتحدة، قياسًا بالناتج المحلّي، يدفع البلاد -أكثر من أي وقت مضى- للمساومة على قوّة الدولار، لتخفيض القيمة الفعليّة لهذا الدين. وهذه الفكرة، تُعتبر أحد أسباب الخلاف بين إدارة ترامب والاحتياطي الفيدرالي اليوم.
في جميع الحالات، لا يوجد ما يكفل تمرير كل هذه الأفكار في الحكومة اللبنانيّة، ضمن مشروع القانون، حتى لو تم طرحها حاليًا من قبل المصرف المركزي. كما لا يوجد ما يضمن إقرارها في مجلس النوّاب، حتّى لو وردت ضمن مشروع قانون الحكومة. وفي الوقت الحالي، تتحسّب جميع القوى السياسية لاحتمال إجراء الانتخابات النيابيّة في موعدها، وهو ما يدفعها للحذر من أي مقاربات غير شعبيّة بخصوص ملف الودائع. وهذا ما سيشكّل عقبة إضافيّة يمكن أن تمنع اعتماد هذه المقاربات في مجلس النوّاب.



