بعكس كل الكلام الذي تم تداوله عن إجراءات “جريئة” وغير شعبيّة، لم يقترب مشروع موازنة 2019، الذي أحاله الوزير علي حسن خليل إلى الوزراء، من الأمور الحسّاسة شعبيّاً، من قبيل المس بأجور موظّفي الدولة والمتقاعدين وفرض ضرائب جديدة على المستهلكين. وباستثناء رفع الضريبة على الفوائد، لم يمس مشروع الموازنة كذلك أرباح المصارف، أو فوائد الدين العام. بمعنى آخر، إبتعد الوزير عن إثارة أي حساسيّة تجاه أي طرف، مفضّلاً رمي كرة النار في ملعب مجلس الوزراء، الذي سيناقش الأسبوع المقبل مشروع الموازنة المُحال إليه من وزير المال.
ضريبة الفوائد: سجال مرتقب
المسألة الحسّاسة الوحيدة التي قاربها مشروع الموازنة كانت رفع الضريبة على الفوائد من 7 في المئة إلى 10 في المئة، ومن دون إعفاء المصارف من هذه الزيادة. وعمليّاً، يتناقض هذا الطرح مع طرح الرئيس سعد الحريري، الذي قضى بإعفاء توظيفات المصارف من هذه الزيادة، ومع كلام حاكم مصرف لبنان في اجتماعه الأخير مع جمعيّة المصارف. وعليه سيكون هذا البند النقطة السجاليّة الأبرز التي يُفترض أن تُثار عند مناقشة مشروع الموازنة في مجلس الوزراء. ومن الممكن، حسب مراقبين، أن يكون وزير المال تعمّد إبقاء هذه النقطة على هذا النحو في مشروع الموازنة المُعَدّ من قبله، لتحميل مسؤوليّة أي إعفاء مقترح للمصارف، لمجلس الوزراء مجتمعاً.
إعفاءات ومخارج للمتهرّبين ضريبيّاً
مشروع الموازنة تضمّن كذالك إعفاءات بنسبة 90 في المئة من جميع الغرامات الضريبيّة، لجمع المكلّفين بالضريبة، الذي تهرّبوا أو تقاعسوا عن سداد الضرائب المتوجّبة عليهم. وبذلك يكون مشروع الموازنة قد أوجد مخرجاً لمسألة الإعفاءات من الغرامات لبعض الشركات، التي تم طرحها مؤخّراً في مجلس الوزراء، قبل أن يصار إلى سحبها من التداول، بعد ضجّة إعلاميّة كبيرة على خلفيّة تضمين الأسماء المقترحة للإعفاءات شركات مملوكة جزئيّاً من زعماء بارزين أو مقرّبة منهم. وبالرغم من إشكاليّة تضمين الموازنة إعفاءات بهذا الحجم بموازاة الإجراءات التقشّفيّة، يحاجج المؤيّدون لهذا الطرح بأن مسألة الإعفاءات تشكّل حافزاً للمكلّفين ضريبيّاً لتسوية أوضاعهم، وتسمح للدولة بتحصيل جزء كبير من هذه الضرائب.
سقوف للمخصّصات والرواتب
لعلّ المظهر التقشّفي الأبرز في مشروع الموازنة يطال تحديداً الشطور العليا في رواتب القطاع العام. فمشروع الموازنة نص على حسومات بنسبة 50 في المئة من مخصّصات الرؤساء والنوّاب والوزراء لمدّة ثلاث سنوات. كما نصّ على تحديد سقف للملحقات والتعويضات لوظائف القطاع العام يوازي قيمة راتب الموظّف الأساسي. وتضمّن المشروع بنود أخرى من قبيل عدم جواز الجمع بين راتبين من القطاع العام، ووقف العمل بالرواتب التي تزيد عن 12 مرّة في السنة. أمّا المس الوحيد الفعلي بأصحاب الدخل الأدنى، فشمل معاشات التعاقد للعسكريّين، التي نص المشروع على إقتطاع 3 في المئة منها بدل الضمان الصحّي والمساعدات الإجتماعيّة.
وعلى صعيد الضريبة على الدخل، استحدث المشروع شطراً إضافيّاً للدخل الخاضع للضريبة، والذي تتجاوز قيمته الـ225 مليون ليرة، على أن يتم إخضاعه لضريبة بنسبة 25 في المئة. مع العلم أن التوزيع الحالي للشطور يُخضع أعلى شطر لضريبة نسبتها 20 في المئة.
مخاوف من المرحلة المقبلة
في الشكل، ابتعد مشروع الموازنة فعليّاً عن أي مسّ بأصحاب الدخل الأدنى، سواء من جهة الضرائب والرسوم، أو من ناحية رواتب القطاع العام. كما تضمّن خطوات تزيد من العبء الضريبي والتقشّفي على أصحاب الدخل الأعلى في الدولة وخارجها. لكن ثمّة مخاوف من أن تكون هذه الخطوات مجرّد تحييد لوزير المال عن الإجراءات الأقسى غير الشعبيّة، على أن يتم فتح الباب أمام النقاش حولها في مجلس الوزراء، ليتحمّل المجلس المسؤوليّة بشكل جماعي.
وبمعزل عن قرارات مجلس الوزراء الأسبوع المقبل، ثمّة شكوك حول قدرة الدولة على تحقيق العجز المستهدف في الموازنة. فمشروع الموازنة المطروح حاليّاً يحدد العجز المستهدف بـ3.5 مليار دولار، وهو رقم شبيه للعجز الذي استهدفته موازنة العام الماضي. مع العلم أن العام الماضي عاد وحقّق عجزاً فعليّاً في الميزانيّة ناهز الـ5.8 مليار دولار حتّى شهر تشرين الثاني، بمعزل عن أرقام الموازنة. وهكذا، ثمّة أسئلة حول واقعيّة الأرقام التي يطرحها اليوم مشروع الموازنة، في ضوء تجربة السنة الماضية. خصوصاً أن مشروع الموازنة الحالي لم يمس بأي من النقاط الحسّاسة للأطراف المعنيّة المختلفة، سواء من جهة خدمة الدين أو أجور القطاع العام (أكبر كتلتين في النفقات)، وهو ما يشبه إلى حد كبير الأسلوب الذي تم اعتماده في موازنة السنة الماضية. كما تتشابه موازنة العام الحالي مع موازنة العام الماضي، في استثنائها التحويلات إلى كهرباء لبنان من النفقات المرتقبة. إذ تم تصنيفها كسلف من خارج الموازنة. وهو ما يضيف من الشكوك حول جديّة الأرقام التي يظهرها العجز المستهدف في مشروع الموازنة.
في الواقع، يمكن التذكير أن تخفيض العجز الوارد في أرقام الموازنة، وفق تدرّج معيّن، كان أبرز الشروط التي وضعها المانحون في مؤتمر سيدر، وهو ما يضغط على السلطة السياسيّة لإقرار موازنة تعكس هذا التخفيض المطلوب في العجز، للاستفادة من قروض هذا المؤتمر. لكنّ ذلك لا يعني بطبيعة الحال توقّع تخفيض فعلي في هذا العجز في الميزانيّة، كما لا يضمن أي تحسّن في ماليّة الدولة مستقبلاً. أمّا ما يمكن أن يشكّل بداية مقاربة بنّاءة لملف الميزانيّة العامّة، فهو مراجعة الكتلة التي تستنزف 45 في المئة من الواردات وفق مشروع الموازنة المطروح، وهي فوائد الدين العام، خصوصاً أن المس برواتب أصحاب الدخل المحدود صار خارج النقاش.. إذا صدّقنا تصريحات أقطاب السلطة.