مشهد مُقلق: “البيك” يقترض من سائقه

 

 

في التوقيت القاتل، برزت بوادر خلافات جديدة بين أركان السلطة. وهي خلافات قد تؤدّي هذه المرة الى كارثة وطنية، لأنّ الوقت لم يعد يسمح بلعبة عض الاصابع، وقد نستفيق فجأة على خبر إفلاسٍ سيكون وقعُه ثقيلاً، وثقيلاً جداً على كل الناس.

في إطلالته التلفزيونية الأخيرة لإعطاء بعض التلاميح في شأن مضمون مشروع موازنة العام 2019، نجح وزير المالية علي حسن خليل في مهمة الدفاع عن خطط التقشّف والاصلاح المطلوبة في الموازنة، لتحاشي الانهيار المالي الذي يدق الابواب. وكان الوزير موفقاً على المستوى الشخصي في مقاربة مواضيع حسّاسة تُسجّل له، خصوصاً ما يتعلق منها بالتقشّف المطلوب في المؤسسات العسكرية والأمنية. إذ عندما يعلن وزير، وهو قيادي في حركة “أمل” ويدرك انّ أبناء الطائفة الشيعية يشكلون النسبة الاكبر من عديد الجيش، انه يدعم قوننة التدبير رقم 3، فهذا يعني انّ الفريق الذي يمثّله خليل، قرّر البدء في الاصلاحات والقرارات الموجعة، متجاوزاً منطق حماية مصالح أبناء الطائفة أولاً. ربما، لأنّ هذا الفريق أدرك أنّ مصلحة ابناء الطائفة ومصلحة البلد تحتّم التضحية بالجزء، لتحاشي خسارة الكل. وهو أمر ايجابي في كل الاحوال.

لكن هذا الموقف المتقدّم، والذي أحسن خليل تقديمه الى الرأي العام بأسلوب مُقنع ومنطقي، لا يمنع أنه حتى الساعة لا يوجد توافق بين اركان السلطة على خطة واحدة للانقاذ. بل انّ الأسوأ خرج الى العلن، مع تسجيل كلام اعتراضي لرئيس الجمهورية، وردود من هنا وهناك، دلّت كلها على عدم وجود اتفاق، بل بوادر أزمة اذا تطورت اكثر، قد تكون بمثابة القشة التي ستقصم ظهر البعير، وتعلن انتهاء ما سُمّي حتى الآن مساعي الانقاذ، لتبدأ مرحلة إحصاء الخسائر، والتأقلم مع واقع الانهيار.

ما هي المؤشرات الجديدة التي توحي باقتراب الوضع من الهاوية كثيراً؟

أولاً – الخزينة خاوية من أي مال احتياطي. وقد اعترف وزير المالية بنفسه بأزمة سيولة طرأت وتمّت معالجتها بصمت. كذلك، اعترف وزير المالية بأنّ عدم دفع مستحقات البلديات أدّى الى توقّف دفع رواتب موظفي بعض البلديات. ومع ذلك كشف انّ المشكلة تكمن في انّ المال غير موجود لدفع المستحقات. وهذا يعني انه رغم وقف كل انواع الدفع في وزارة المال، وحصر الانفاق في دفع الرواتب، فإنّ الاموال التي تتوفر لا تكفي حتى لدفع الرواتب، بدليل وقف دفع رواتب بعض موظفي البلديات، والذين يعتبرون جزءاً من القطاع العام.

ثانياً – لم تنجح محاولات الضغط على المصارف لخفض اصطناعي لاسعار الفوائد، بعدما تبين انّ كميات الأموال التي تدخل الى صناديق المصارف هي في تراجع مستمر، مقابل استمرار ارتفاع وتيرة سحب الاموال.

ثالثاً – ما حصل في بورصة بيروت يوم الخميس الماضي قبَيل الاقفال الرسمي في عطلة الفصح لـ4 أيام، من انهيار لافت في اسعار كل الاسهم المتداولة، عكَسَ قلق المستثمرين وحَمَلة الأسهم من احتمال حصول انهيار مالي في أية لحظة، لدرجة التهافت لبيع الاسهم قبل الدخول في العطلة، حيث تصبح إمكانية البيع في ظل اغلاق الاسواق غير مُتاحة.

هذه المؤشرات جرى تسجيلها حديثاً، وهي تُضاف طبعاً الى المؤشرات السابقة المعروفة والمرتبطة بارتفاع كتلة الدين العام بنسبة 11% في عام واحد، وبتراجع تدفّق الودائع الى 3,2% في العام 2018، والى استمرار حركة السحوبات، والى تراكُم العجز في ميزان المدفوعات (POB) الى مستويات خطرة قاربت الـ5 مليارات دولار في نهاية 2018. والى تراجع القروض للقطاع الخاص، وشبه غياب للقروض المدعومة، والى ارتفاع معدل اسعار الفوائد الى 15 و16% على الليرة، و8 و9 % على الدولار. بالاضافة الى خفض وكالة «موديز» تصنيف لبنان الائتماني الى درجة (C)…

هذا الواقع يعني انّ الوضع المالي وصل حالياً الى حافة الهاوية، الى حد انّ الدولة بدأت تناقش فكرة الاقتراض من موظفيها لمدة 3 سنوات، مقابل الالتزام بردّ المبلغ كاملاً بعد انقضاء المهلة المحدّدة، زائد الفوائد! فهل يمكن الركون الى الوضع المالي لمستثمر أو متموّل أو “بيك” ضاقَ به الحال وبات يضطر الى اقتراض المال من سائقه؟

الأمر الايجابي الوحيد في هذا المشهد السوداوي هو انّ الاطراف السياسية التي تتحكّم بالقرار باتت مقتنعة بأنّ احتمال الانهيار وارد فعلاً، وانّ مقولة “يهتزّ ولا يقع” (المقصود لبنان) مجرد كلام لا يُغني ولا يُسمن، وانّ “الوقعة” واردة وبقوة وفي مهلة قصيرة جداً. وبالتالي، يتصرّف القسم الأكبر من هذه الأطراف على أساس انه لا بدّ من اتخاذ قرارات غير شعبية، ومواجهة غضب الناس اليوم، على اعتبار انّ الأضرار السياسية التي تنطوي عليها هذه القرارات تبقى أقل خطورة من الوصول الى انهيار سيؤدي الى غضب شعبي عام، وربما الى اضطرابات، والى مأساة حقيقية على مستوى النتائج على الجميع. لكن المشكلة انّ التمييع وإضاعة الوقت يعنيان انعدام القدرة على اتخاذ قرارات موجعة ومتوازنة. وبعد وقت قصير ستصبح القرارات الموزونة غير ناجعة ايضاً، وسيصبح الواقع امام خيارين لا ثالث لهما.

إمّا قرارات موجعة وظالمة وغير موزونة تسلُب الناس قدراتهم الشرائية بنسبة مرتفعة، وإمّا انهيار شامل يسلُب المجتمع كل قدراته، ويضع الدولة امام مرحلة من الفقر العام. وستكون المآسي صعبة ومعقّدة ومنتشرة على رقعة واسعة جداً في كل مفاصل المجتمع، خصوصاً بالنسبة الى الطبقتين المصنفتين فقيرة ومتوسطة. وعلى سبيل المثال، سيصبح مطلوباً قرارات من النوع الحاسم السريع، كأن توضع ضريبة على البنزين بنسب 3 أو 4 دولارات على الصفيحة، وأن تُرفع تعرفة الكهرباء فوراً بنسبة 300 أو 400%، وأن يتم اقتطاع 20 أو 25% من كل رواتب القطاع العام دفعة واحدة. هذه الاجراءات الثلاث تمنح الخزينة بين 4 و5 مليارات دولار، لكنها تسلب المواطنين حوالى 35% من قدراتهم الشرائية. وهي ليست حلاً، بل مجرد خيار كارثي يمكن اعتماده بدلاً من خيار الانتحار الجماعي، لأنه يعني انّ على كل لبناني ان يساهم بدفع حوالى 200 دولار شهرياً ضريبة منع الافلاس عن البلد. إنه حل مؤقت طبعاً، على طريقة “أخوت شاناي” لجَر المياه الى قصر الأمير بشير.

 

بواسطةانطوان فرح
مصدرجريدة الجمهورية
المادة السابقةقراءة في الوقائع والأرقام الماليّة
المقالة القادمةأعطال معمل الجية: إهمال أم تقادم أم سرقة فيول؟