مصارف آيلة للسقوط في غضون ستة أشهر

في الأشهر القليلة المقبلة، تبدأ التغييرات الفعلية في المشهدين الاقتصادي والمالي في البلد. وبعد مرور حوالى 6 أشهر على إعلان حكومة حسّان دياب التعثّر والتوقّف عن الدفع، عادت الامور الى المربّع الاول، وتمّ تسجيل خسائر إضافية بحوالى 15 مليار دولار.
لا يمكن رسم خريطة طريق للمشهد المالي والاقتصادي في الاشهر القليلة المقبلة، قبل استشراف الوضع السياسي. بين أن تنجح المبادرة الفرنسية، ونشهد ولادة حكومة مستقلين وأخصائيين، أو أن تفشل ونعود الى نقطة الصفر على المستوى الحكومي، الفرق شاسع بين المشهدين على كل المستويات. ومع ذلك، هناك حقائق على المستوى المالي لن تتغيّر كثيراً، ومن أهمها:

أولاً – سيضطر البنك المركزي الى تكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة بسبب ازدياد الحاجة الى توفير سيولة إضافية تغطي جزءاً من الانفاق الحكومي، وتؤمّن ربما أرباحاً اضافية للمركزي (seigniorage). وهذا الامر يزيد الضغط على الدولار، ويُسهم في تراجع اضافي في سعر صرف الليرة.

ثانياً – حاجة الدولة الى الاموال سترتفع بنسبة تتراوح بين 30 و35 %، وربما أكثر. هذه الحاجة تعكسها بوضوح أرقام المالية العامة عن النصف الاول من 2020، إذ تُبيّن مدى تراجع الايرادات الناجمة عن الضرائب المباشرة وغير المباشرة. هذا التراجع الذي وصلت نسبته العامة في 6 أشهر الى حوالى 32 %، بما يعني عملياً انّ 85 % من مداخيل الخزينة حتى نهاية العام 2020 ستذهب لدفع الرواتب. كذلك يُستدلّ من تراجع إيرادات الضريبة على القيمة المضافة (TVA) بنسبة 50 %، انّ أداء القطاعات الخاصة يتراجع بسرعة دراماتيكية، بالاضافة الى الدلالات المتعلقة بتراجع القدرة الشرائية للمواطن. هذه النسبة، مرشّحة للارتفاع الى ما يقارب الـ65 % حتى نهاية العام، الأمر الذي يعكس وجود كارثة اقتصادية بكل المقاييس.

مع الاشارة هنا الى أنّ هذه الارقام المُقلقة تأتي في ظل تراجع الانفاق على فوائد الدين العام الى مستويات غير مسبوقة بسبب توقف الدولة عن الدفع. وعلى سبيل المثال، دفعت الخزينة حوالى مليارين و700 ألف دولار فوائد حتى حزيران 2019، مقارنة مع حوالى مليار و300 مليون دولار حتى حزيران 2020. بما يعني انّ الانفاق تراجع اصطناعياً بنسَب كبيرة. لكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة، قبل أن تتم مراجعة موضوع الدين برمّته، واتخاذ قرار في شأن إعادة الهيكلة والجدولة، ونسبة الحسومات التي سيتمّ الاتفاق عليها لتسوية مسألة التوقّف عن دفع استحقاقات اليوروبوندز، واستحقاقات الفوائد المتراكمة.

ثالثاً – من المتوقّع أن يشهد القطاع المصرفي تغييرات جذرية من حيث الشكل والمضمون، إذ بدأت إدارات المصارف التحضير للمرحلة المقبلة، والتي يُفترض أن تتمّ خلالها زيادة الرساميل بنسبة 20 %، أي ما يوازي 4 مليارات دولار. هذا المبلغ قد يتم تأمين 40 % منه عبر عمليات بيع الوحدات المصرفية التابعة للمصارف اللبنانية في الخارج. لكن المبلغ المتبقّي، والذي لا يقلّ عن مليارين و200 مليون دولار، يُفترض تأمينه من المساهمين الحاليين أو من المساهمين الجُدد، وهذا الأمر قد لا يتوفّر لكل المصارف التي قد تجد نفسها مُرغمة على «الاستسلام» لمصرف لبنان الذي سيضع يده عليها ويتولى إدارتها مرحلياً، قبل تحضيرها للبيع لاحقاً الى مستثمرين جُدد.

هذه الحقائق ثابتة، سواء شهدنا ولادة حكومة وإقلاع المبادرة الفرنسية أم لا. لكنّ الفرق في المشهد بين السيناريوهين انّ هذه الوقائع ستتفاقم أو تتحلحل وفق الوضع السياسي. على سبيل المثال، في الملف المصرفي، يمكن أن نشهد التالي:

– في حال إقلاع الحكومة، واستقرار الوضع السياسي، وبدء تنفيذ خارطة الطريق التي جرى الاتفاق عليها مع الفرنسيين، سيكون عدد المصارف العاجزة عن تلبية متطلبات زيادة الرأسمال حتى نهاية شباط 2021 لا يتجاوز عدد أصابع اليد. وسيكون من السهل، وفي فترة زمنية قصيرة نسبياً، نقل ملكية هذه المصارف الى المستثمرين الجدد، أو دمجها مع مصارف قائمة وقادرة على الاستيعاب.

– في حال تعثّر المبادرة الفرنسية، والدخول في مرحلة إضافية من العقم السياسي، قد يتضاعف عدد المصارف التي ستعجز عن رفع رساميلها الى المستويات المطلوبة. ذلك انّ إيجاد مستثمرين حاليين أو جدداً مستعدين للاستثمار في القطاع في ظروف سياسية غامضة، أمر شبه مستحيل. وبالتالي، قد نكون أمام مشهد سقوط من 10 الى 12 مصرفاً في أحضان مصرف لبنان. وسيكون المركزي في وضع لا يُحسد عليه في إدارة هذه المصارف وتحضيرها للبيع. أولاً، لأنّ ّإمكانات الدعم والادارة الرشيدة في هذه الظروف ستكون صعبة، خصوصاً انّ مصرف لبنان لن يكون في وضع مالي طبيعي يسمح له بتخصيص موازنات كافية لضمان نجاح التجربة. وثانياً، لأنّ مصرف لبنان لن يجد مستثمرين جدداً، كما لن يكون في مقدور المصارف القائمة استيعاب هذه المصارف. وبالتالي، ستكون المعضلة صعبة ومعقدة.

هذا نموذج واحد من نماذج عدة يمكن إيرادها للدلالة على الفرق الذي سيحدثه المشهد السياسي في الاشهر القليلة المقبلة. صحيح أنّ الوضع المالي والاقتصادي، وفي كل الحالات، لن يكون طبيعياً، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الوضع السياسي إمّا أن يجعل المشهد مظلماً بلا أفق وسيزداد ظلاماً كلما مرّ الوقت، وإمّا أن يكون الظلام شبيهاً بالظلام الذي يسبق بدء انبلاج الفجر، ولو طال الانتظار بعض الشيء.

 

مصدرالجمهورية - أنطوان فرح
المادة السابقةمركز الصحافة في باريس: حريق المرفأ مفتعل…
المقالة القادمةالدولة للبقاعيين: موتوا بفقركم!