تقدّم بعض المصارف اللبناينة اليوم منتجات جديدة، كما لو أنها لم تشهد انهياراً ولم تحتجز أموال المودعين على مدار الخمس سنوات الماضية، ولم تقتطع من مدخرات اللبنانيين أكثر من 85 في المئة من قيمتها الحقيقية ولم تعرّضهم للمذلة على أبواب فروعها. تعرض بعض المصارف ومنها بنك البحر المتوسط MED وبنك سوسيتيه جنرال SGBL، على زبائنها إيداع مبالغ مالية نقدية بالليرة اللبنانية في مقابل فوائد عالية جدا ً “كنوع من الاستثمار بالعملة المحلية الموعودة بازدهار متوسط الأمد”، على ما يقول أحد المصرفيين في حديث لـ”المدن”.
تعرض المصارف الفوائد العالية على عملائها من دون أن تُبلغهم بخطورة الإيداع بفوائد عالية على الرغم من أنها تعد مؤشراً حاسماً على خطورة وضع العملة في كافة دول العالم. المصارف المذكورة وسواها تعرض على العملاء تجميد حسابات بالليرة على مدى 3 أو 6 أو 9 أشهر أو سنة على ان تسدد فوائد عليها تتراوح بين 30 و45 في المئة، تختلف بحسب حجم الوديعة والمدة الزمنية لتثبيت المبلغ.
وبصرف النظر عن العوامل التي دفعت المصارف إلى طرح تلك منتجات، والتي أوردتها “المدن” في تقرير سابق، هل يعلم المودع بالمخاطر الحقيقية التي تحيط بوديعته بالليرة في حال انخفاض سعر الصرف خلال فترة الاستحقاق؟
بين الإقبال والحذر
أقبل العديد من اللبنانيين على المصارف للإستفادة مما يسمونه عروضات جديدة، وبحسب أحد المودعين في بنك البحر المتوسط، فقد حوّل وديعته “القديمة” البالغة قيمتها 80 ألف دولار إلى الليرة على سعر الصرف المعمول به في المصارف أي 15000 ليرة وفتح حساباً جديداً لدى المصرف نفسه، أودع فيه المبلغ وجمّده على فترة عام كامل على أن يتقاضى فائدة في نهاية فترة الاستحقاق تبلغ 30 في المئة.
وفي مقابل أولئك المتحمّسين لجني أرباح سريعة من الفوائد رغم المخاطر العالية، ينتاب الكثير من اللبنانيين القلق من التعامل مجدّداً مع المصارف لاسيما لجهة إيداع الأموال النقدية. وبلا شك أن قلقهم مبرّر بما اقترفته المصارف منذ سنوات، حين كانت تغري المودعين بالفوائد العالية على الدولار والتي وصلت حينها إلى 20 و25 في المئة، قبل أن تتفجّر الأزمة المالية المصرفية وتعمد المصارف إلى احتجاز ما تبقى من الودائع حتى اللحظة.
يتردّد الكثيرون من الدخول بتجربة مماثلة مع المصارف اللبنانية قبل إعادة هيكلتها ومحاسبة المرتكبين والمساهمين بالأزمة المالية، في حين يذهب البعض الآخر وراء تطمينات المصارف ويدخل مغامرة جديدة تقوم على الإيداع بالليرة. وهؤلاء يعتبرون أن الإيداع بالليرة أكثر أماناً من الإيداع بالدولار باعتبار أن مصرف لبنان لا ينتج الدولار إنما يمكنه ضمان سداد الودائع بالليرة مهما حصل من تطورات غير محسوبة فهو صاحب القرار بطباعة العملة المحلية.
ولكن يتجاهل المودعون الجدد، بالليرة اللبنانية، والطامعين بالفوائد العالية، عن قصد أو عن غير قصد، أن استعادة الودائع بالليرة بتاريخ استحقاقها لا يضمن قيمتها الحقيقية. إذ لا يمكن للمصرف أو البنك المركزي أو أي طرف آخر تأكيد وحسم توجه الليرة في المرحلة المقبلة، وهي المرحلة الأكثر تعقيداً في ظل ما يواجهه لبنان من استحقاقات سياسية واقتصادية مربوطة بأي دعم دولي.
مخاطر الإيداع بالليرة
وفي شهادة من أهل القطاع قال مصرفي في حديث لـ”المدن” أنه من الجيد أن تستعيد الناس تدريجياً ثقتها بالمصارف لكني لا أحبذ رفع الفوائد بهذا الشكل فذلك يشير صراحة إلى مخاطر عالية جداً. ويؤكد المصدر المصرفي بأنه لا ينصح أحد بالإقدام على هذه العملية وإيداع مبالغ مالية بفائدة عالية فالمخاطر قائمة، عازياً إقبال المواطنين على الإيداع في المصارف حالياً والاستفادة من الفوائد العالية إلى مشاركتهم المصرفيين بالتفاؤل حيال الوضع السياسي.
فهناك اعتقاد بأن الانفراج السياسي قد يحمل معه تحسناً في سعر الصرف “ولكن هذا أمر غير مضمون لاسيما أن السلطة السياسية لم تعط اي إشارة للخارج والمجتمع الدولي تفيد بجدية النوايا لتنفيذ إصلاحات اقتصادية وهذا هو جوهر الازمة. فمن دون إصلاحات اقتصادية لن ينال لبنان اي مساعدات او دعم من المجتمع الدولي لا لإعادة الاعمار ولا لأي دعم أخر”.
ويوضح المحامي المتخصص بالرقابة على المصارف المركزية الدكتور باسكال ضاهر المخاطر المحدقة بعملية رفع الفوائد بشكل كبير، ويقول في حديثه إلى “المدن” قد يطرأ أي تغيير على مدى الأشهر المقبلة؛ ولكن في حال استمر الوضع على ما هو عليه، بحيث أن لا ايرادات بالدولار ولا أموال دولية بسبب ضرب السلطة لجميع المراكز الاقتصادية، كما وانه لا حركة ما بسبب الهتك المتعمد للودائع وبالتالي للثقة الائتمانية، وايضا لا ثقة بإدارة الأزمات بالبلد، لذا فإن المصرف المركزي في حينه سيضطر الى طبع العملة لسداد الفوائد العالية على الليرة، ومن غير الممكن أن يتم ذلك إلا من خلال عمليات الطبع لانه هو من التزم بالفوائد تجاه المصارف وليس الدولة اللبنانية وذلك سيعيدنا الى مرحلة “الصفر” الجديدة اي بناء هرم ديون غير مستقيم قد ينهار بأي لحظة كما حصل في الازمة المفتعلة الراهنة.
كما أن هناك مخاطر بالنسبة للمصارف، فهل ستخلق ودائع مشتقة؟ وماذا لو سحب المودعون ودائعهم والفوائد واشتروا بها الدولار فماذا سيحصل حينها؟
خلفية رفع الفوائد
ويرى ضاهر بأن مسألة سحب المصارف لليرات من السوق من خلال إغراء المواطنين بفوائد مصرفية عالية ترتبط بسلسلة مستجدات أولها اضطرار الدولة تنفيذ عمليات صرف من الحساب المفتوح باسمها لدى مصرف لبنان (الحساب رقم 36) وهو ملك للدولة وليس البنك المركزي. وحين قررت الدولة رفع الردم واصلاح البنى التحتية من ماء وهاتف وغيره بدأت بالسحب من الحساب المذكور، في وقت كانت الدولة قبل الحرب تجبي ولا تنفق بضغط من المركزي، وهو ما علق عليه البنك الدولي في تقريره الاخير. إقدام الدولة على الصرف بالليرة اضطر المصرف المركزي إلى تعديل سياسته المعتمدة للمحافظة على حجم الكتلة النقدية بالليرة في السوق، فرفع الفوائد للمصارف التي بدورها رفعت الفوائد للناس بهدف سحب الليرة من السوق لمنع تضخم الكتلة النقدية بالليرة.