مصداقية الأرقام على المِحكّ والأسواق تُشكّك.. كيف تمّ خفض العجز إلى 6.59 بالمئة؟

أنها أقرب إلى قصّة خرافية منها إلى قصّة حقيقية، بلد يُعاني من عجز مزمن في موازنته العامّة وبظرف ثلاثة أشهر يتمّ خفض هذا العجز إلى ما يقارب النصف؟! الأسواق أعطت كلمتها ووكالات التصنيف الإئتماني أعطت أيضا كلمتها وحتى صندوق النقد الدولي أعطى كلمته والنتيجة واحدة: لن تستطيع الحكومة الإلتزام بعجز 7.59%. إذًا كيف يُمكن لها أن تلتزم بعجز 6.59؟

بالطبع هذه القول لا يُقلّل بأي شكلٍ من الأشكال عمل لجنة المال والموازنة التي نحترم ونجلّ وهي التي أمضت أكثر من 35 جلسة في دراسة هذه الموازنة وقابلت كل المعنيين ودرست الأرقام بالعمق. إلا أنه يحق لنا كمراقبين وكإقتصاديين أن نعلم كيف إستطاعت الحكومة ولجنة المال والموازنة خفض عجز الموازنة من 11.5% في موازنة العام 2018 إلى 6.59% في مشروع موازنة العام 2019 مع العلم أننا في منتصف الشهر السابع من السنة ولم يتبق إلا خمسة أشهر لتطبيق الإجراءات؟

المعطيات

بلغ حجم موازنة العام 2018 ما قيمته بالدولار الأميركي 17.72 مليار دولار. وبما أن الإيرادات مبنية على توقّعات ماكرو-إقتصادية وتوقّعات سياسية، يُمكن لهذه التوقعات ألا تُصيب أهدافها وبالتالي يكون هناك عجز تعمد الحكومة إلى تقديره من خلال الفارق بين الإيرادات والنفقات إذ أن فارق سلبي يُسمّى بالعجز وعادة ما يكون نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي. وتنصّ المعايير الدوّلية على أن نسبة هذا العجز إلى الناتج المحلّي الإجمالي يجب أن تكون أقل من 3% ليكون للحكومة هامش التعويض في الأعوام القادمة.

وتوقّعت الحكومة ومن ورائها لجنة المال والموازنة في العام 2018 أن يكون عجز الموازنة 4.8 مليار دولار أميركي أي ما يوازي 8.89% من الناتج المحلّي الإجمالي، لكن العجز المُحقّق لم يكن على الموعد إذ بلغ ما قيمته 6.24 مليار دولار أميركي بحسب أرقام وزارة المال أي ما يوازي 11.57% من الناتج المحلّي الإجمالي. وبالبحث عن التفاصيل، نرى أن ما تمّ تحصيله من إيرادات بلغ 65.2% من المتوقّع في حين تخطّت النفقات المُحققة ما تمّ توقّعه بنسبة 0.41%.

هذا الأمر أثار غضب المانحين في مؤتمر سيدر والذين ذكّروا الحكومة اللبنانية بإلتزاماتها بخفض العجز بنسبة 5% على فترة 5 سنوات على أساس 1% سنويًا، مما دفع الحكومة عند تحضيرها مشروع موازنة العام 2019 إلى محاولة تخفيض هذا العجز إلى ما دون 8% بحكم أن العجز في العام 2017 كان بحدود الـ 10% وبالتالي التعهدّ يقضي بخفض العجز 1% سنويًا مما يعني أقلّ من 8% في العام 2019.

مشروع موازنة العام 2019 كما أحالته الحكومة اللبنانية إلى المجلس النيابي في أواخر شهر أيار الماضي، نصّ على حجم موازنة بما قيمته بالدولار الأميركي 17.08 دولار أي بإنخفاض بقيمة 644 مليون دولار أميركي (3.63%) عن موازنة العام 2018. والعجز الذي توقّعته الحكومة في مشروعها بلغ 4.1 مليار دولار أميركي أي ما يوازي 7.59% من الناتج المحلّي الإجمالي. لكن بعد دراسة المشروع من قبل لجنة المال والموازنة إستطاعت هذه الأخيرة خفضه إلى 6.59% أي ما يوازي 3.56 مليار دولار أميركي.

وهنا نسأل: كيف إستطاعت الحكومة ولجنة المال والموازنة خفض عجز الموازنة من 11.57% إلى 6.59% أي ما يوازي 2.7 مليار دولار أميركي؟

كيف تمّ خفض العجز في الموازنة؟

الأساس من تخفيض العجز من قبل الحكومة آت بالدرجة الأولى من خمسة بنود هي قرض الـ 11 ألف مليار ليرة لبنانية بفائدة 1% (912 مليون دولار أميركي)، رسم 2% على الإستيراد (ما لا يقلّ عن 300 مليون دولار أميركي)، ومستحقات العسكريين (تمّ تعديله في لجنة المال والموازنة)، البرامج الإستثمارية، والكهرباء (666 مليون دولار أميركي). هذه البنود الخمّسة مسؤولة عن خفض العجز بنسبة 96% أي 2.06 مليار دولار أميركي، ليبقى بعدها ما يُقارب الـ 85 مليون دولار أميركي تمّ خفضها من موازنات الوزارات والمؤسسات.

عند وصول المشروع إلى لجنة المال والموازنة وبعد ساعات وساعات من الدرس والنقاش بين أعضاء اللجنة ومع المعنيين، تمّ خفض النفقات بقيمة 550 مليار ليرة لبنانية (364 مليون دولار أميركي)، وزيادة إيرادات بقيمة 400 مليار ليرة لبنانية (265 مليون دولار أميركي) عبر إستحداث إيرادات إضافية من البناء المستدام أو البناء الأخضر (200 مليار ليرة) وإحتساب إيرادات سبق إقرارها بإقرار تسوية مخالفات البناء (200 مليار ليرة).

بالطبع لم نطّلع على مشروع الموازنة بصيغته الأخيرة كما أقرّته لجنة المال والموازنة، ولكن من خلال المُعطيات الإعلامية الموجودة بين أيدي المواطنين، يُمكن الإستنتاج أن هناك مُشكلة في العجز المُعلن وعلى رأسها تمسّك الرئيس سعد الحريري بالصيغة التي أرسلتها الحكومة إلى المجّلس النيابي.

مُشكلة العجز في الموازنة

التشكيك في نسبة العجز التي حققتها لجنة المال والموازنة أتى من مستشار رئيس الحكومة سعد الدين الحريري الذي قال إن الرئيس الحريري «متمسك بالصيغة الأساسية لمشروع الموازنة وبنسبة العجز التي وردت في المشروع، ويرفض كل الأفكار التي طرحت في مجلس النواب، ويعتبر انها لا توصل الى الهدف المطلوب».

وإذا كان ردّ لجنة المال والموازنة على أن كلّ تعديل أدّى إلى رفع النفقات أو خفض الإيرادات كان له في المقابل إجراءات لتعويضه بشكلٍ يُخفّض العجز أكثر من العجز في مشروع الموازنة المُرسلّ من الحكومة، إلا أن هذا الأمر لم يمحو السجال الحاصل بين الحكومة من جهة ولجنة المال والموازنة من جهة أخرى. وتمّ عقد إجتماع ليل الخميس إلى الجمعة وإجتماع أخر البارحة بين الرئيس الحريري والنائب كنعان بحضور كل من نائب رئيس الوزراء، وزير الصناعة، وزير الخارجية، وزير الأشغال، وزير المال، ووزير الرياضة والشباب حيث تمّ بحث التعديلات التي أدخلتها لجنة المال والموازنة على مشروع موازنة العام 2019.

على صعيد الأرقام وبحساب بسيط: يبلغ حجم الموازنة 17.08 دولار أميركي منها 6 مليارات لخدمة الدين العام، و6 مليارات دولار أميركي للأجور في القطاع العام وما يُقارب الـ 1.8 مليار دولار أميركي للكهرباء، و3.14 مليار دولار أميركي نفقات جارية و130 مليون دولار أميركي نفقات إستثمارية.

البنود الأساسية التي تمّ على أساسها خفض عجز الموازنة تمّ نسفها وبالتالي كيف يُمكن تحقيق عجز 6.59%:

أولا- القرض بـ 11 ألف مليار ليرة لبنانية بفائدة 1% الذي كانت تنوي الحكومة تحميله لمصرف لبنان، تمّ نسفه من قبل صندوق النقد الدوّلي عبر قوّله إنه يُهدّد الثبات المالي والنقدي للدوّلة اللبنانية. وبالتالي لا يُمكن لأحد أخذ مسؤولية كهذه المسؤولية وتعريض الكيان اللبناني للخطر لمجرّد الرغبة بإثبات كلمته ولو على حساب الوطن. الجدير ذكره أن كلفة هذا البند كانت لتكون 912 مليون دولار أميركي وهي محسوبة ضمن خفض العجز في مشروع الموازنة. وما قول رئيس لجنة المال والموازنة أن الحكومة تتحمّل مسؤولية تطبيق ما إقترحته من مداخيل، إلا إستباق لعدم قدرة الحكومة على تحقيق هذا الوفر.

ثانيًا – رسم الـ 2% على الإستيراد والذي تمّ نسفه في لجنة المال والموازنة وإستبداله برسوم نوعية على سلع وبضائع لا تطال الطبقة الفقيرة (بحسب تصريح اللجنة). وهنا تكمن المُشكلة أن الرسوم النوعية لن تؤمّن نفس المبلغ الذي يؤمّنه رسم 2% كما إقترحته الحكومة اللبنانية في مشروعها الأساسي.

رابعًا – مساهمة الدوّلة في مؤسسة كهرباء لبنان والتي كانت توازي 1700 مليار ليرة لبنانية في مشروع الموازنة الذي أرسلته الحكومة إلى المجلس النيابي حيث قامت لجنة المال والموازنة بإقرار 2700 مليار ليرة لبنانية.

خامسًا – بند العسكريين حيث قامت بوضع ضريبة دخل تصاعدية على رواتب العسكريين المتقاعدين وفق الشطور، وتأجيل التسريح من الأسلاك العسكرية لـ 3 سنوات من رتبة مقدّم وما دون أمّا العقيد والعميد فيسرح في الوقت المحدّد. هذا التعديل الذي آتى مغايرًا للصيغة الحكومية (والتي رفضها العسكريون) قلّلت من الإيرادات المتوقّعة من قبل الحكومة. هذه النقاط الخمس أقلّه تجعلنا نقول إن هناك إستحالة الإلتزام بعجز 6.59%.

فرضيات كارثية

في الواقع نقص المعلومات يدفعنا إلى طرح فرضيات نأمل ألا تكون صحيحة لأن تداعياتها في الأسواق وعلى مصداقية أرقام الدوّلة اللبنانية ستكون كارثية:

الفرضية الأولى وتنص على أن لجنة المال والموازنة تسّتند إلى معطيات لا يمتلكها الرأي العام وعلى رأسها العجز المُحقّق حتى الساعة في خزينة الدوّلة حيث كان حاكم مصرف لبنان قد أعلن سابقًا أن العجز المُحقق في الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام لم يتجاوز المليار دولار أميركي. مما يعني أنه وبفرضية أن العجز المُحقّق حتى الساعة (أي أخر شهر حزيران) كان أقلّ من العجز في الفترة نفسها من العام 2018، في هذه الحالة لا معنى للإيرادات الموضوعة لأن العجز يكون قد إنخفض تلقائيًا خصوصًا أن نسبة تحصيل الإيرادات في لبنان لا تزيد عن 66%.

الفرضية الثانية والتي نعتبرها كارثية هي فرضية أن تكون لجنة المال والموازنة قد أقرّت قرض بفوائد منخفضة لتحميله لمصرف لبنان والقطاع المصرفي. في هذه الحالة قد تكون اللجنة نجحت في خفض العجز على الورق، إلا أنها تكون قدّ أعطت في نفس الوقت إشارة الإنطلاق لخضوع لبنان للوصاية الصندوقية.

أيضًا هناك فرضيات أخرى مثل فرضية أن اللجنة قامت بضرب مكامن الهدر والفساد وهذا أمر جيّد، إلا أنه وفي هذه الحالة لنا الحقّ بالسؤال عن السبب الذي منع اللجنة من القيام بهذا الأمر في العام 2017 و2018 ومن يتحمّل مسؤولية الكلفة التي تتحمّلها الخزينة كخدمة دين عام ناتج عن هذا الهدر والفساد وهل ستتمّ ملاحقة الفاسدين. على كل الأحوال، الأيام والأسابيع القادمة ستُظهر الحقائق ويبقى 31/12/2019 يوم الحقيقة بالنسبة للحكومة وللجنة المال والموازنة.

قطع الحساب

يبقى القول إن إشكالية قطع الحساب لمّ تُحلّ بعد ولا نعلم كيف تمّت دعوة الهيئة العامّة إلى جلسة لمناقشة الموازنة من دون معرفة مصير قطع الحساب الذي يواجه مشاكل قانونية ودستورية ومحاسبية. فالسؤال الأول هو الصيغة القانونية التي تُجيز إقرار قطع حساب العام 2017 من دون إقرار قطوعات حساب السنين السابقة خصوصًا أن ديوان المحاسبة أنهى فقط قطع حساب العام 2017 وبقيت قطوعات حساب الأعوام 1997 إلى 2016؟ أضف إلى ذلك الحاجة إلى إجتماع للحكومة لإقرار قطع حساب العام 2017 وهذا الأمر غير وارد حاليًا مع معلومات من مصادر في السراي أن لا جلسة لمجلس الوزراء في الوقت القريب.

أيضًا هناك مُشكلة الفارق في الحسابات والتعديلات التي قامت بها وزارة المال وتنتظر إقرارها حيث تصل الفوارق إلى 16.3 مليار دولار أميركي ولا نعلم كيف يُمكن إقرار قطع حساب وموازنة نظرًا إلى أن نتائج قطع الحساب تُستخدم كحساب دخول في الموازنة وقطوعات الحساب هي تراكمية.

بواسطةجاسم عجاقة
مصدرالديار
المادة السابقة“الأمن الداخلي” يرصد عجائبنا بخفة دم!
المقالة القادمةنصرالله يفصح عن أمور شخصية: لم أبارك لنجلي بعد بنجاحه .. وإعتدت على فراق الأحبة!