مصداقية صندوق النقد والبنك الدوليين

أصدر البنك الدولي الأسبوع الماضي تقريراً مهماً، أعلن فيه نتيجة التحقيق الداخلي في ما سبق أن أشار إليه في شهر أغسطس / آب الماضي، عن وجود بعض المخالفات في تقرير “ممارسة الأعمال” الذي أصدره البنك وتسبب في تشويه البيانات الخاصة بأربع دول، هي الصين وأذربيجان والسعودية والإمارات. وقال البنك إن البيانات التي تم استخدامها في تقرير عام 2017 عن الصين وتقرير عام 2019 للدول الثلاث الأخرى، حسّنت الترتيب العالمي لكل من الصين والسعودية فيما يخص مناخ الأعمال فيهما، مشيراً إلى أن تسعة من أصل خمسة عشر عضواً في الفريق المختص بإعداد تقارير ممارسة الأعمال أكدوا أنهم تعرضوا لضغوط مباشرة أو غير مباشرة لإجبارهم على التلاعب بالبيانات الواردة في التقارير التي يعدونها، وأنهم اضطروا لعدم التصعيد في وقتٍ سابق خوفاً من التعرض لانتقام المديرين.

وحاول التقرير التماس العذر لموظفي البنك المتسببين في عدم دقة البيانات الواردة في التقارير، فأشار إلى أن التغييرات المتكررة في الوظائف والسلطات الإدارية تسببت في عدم وجود أدوار محددة، كما غياب المسؤولية الواضحة للمديرين، وزادت من صعوبة إبلاغ الموظفين عن تعرضهم لتلك الضغوط.

وخلال السنوات الأخيرة، لعبت تقارير ممارسة الأعمال الصادرة عن البنك الدولي الدور الأكبر في توجيه المستثمرين في أغلب بلدان العالم، الأمر الذي دفع العديد من الدول إلى الاهتمام بالنقاط التي يعتمد عليها موظفو البنك في كتابة تقاريرهم وفي تصنيفهم الدول، وتشمل هذه النقاط بعض المؤشرات، مثل سرعة إنشاء الشركات والسياسات الضريبية وسهولة الحصول على الائتمان.

ولم تكن تلك الإشارة الأولى لتورط المؤسسة المالية الأكثر شهرة في العالم خلال العقود السبعة الماضية في إصدار تقارير مضللة، إذ سبق أن أشار بول رومر، كبير الاقتصاديين السابق بالبنك، قبل عامين إلى نفس الفكرة، مؤكداً أن بعض البيانات الواردة في تقارير البنك كانت عرضة للتلاعب، ومعرباً عن تخوفه من وجود دوافع سياسية وراء إصدار التقارير وفيها تلك الأخطاء.

الأمر نفسه يسري على التقارير التي تصدر من صندوق النقد الدولي، ثاني أكبر مؤسسات مجموعة البنك الدولي، والذي تعددت الروايات عن إصداره تقارير منحازة عن حالة الاقتصاد في هذه الدولة أو تلك، من أجل توجه القروض لبعضها، ومنعها عن البعض الآخر، ولأسباب سياسية فقط في أغلب الأحيان.

وفي كتابه العظيم عن “الدَّين”، يؤكد لنا الاقتصادي العظيم ديفيد جرايبر الدور اللعين الذي يلعبه صندوق النقد الدولي في توريط الدول النامية في الديون لتوظيف ما لديه من مليارات والحصول على فوائد عليها. وحرفياً يقول جرايبر، الذي رحل عن عالمنا قبل ما يقرب من مائة يوم: “لقد عمل صندوق النقد بشكل أساسي كفارض للديون في العالم، ويمكن اعتباره المعادل المالي للأشخاص الذين يأتون إليك لكسر ساقيك”.

وشرح الرجل الذي درَّس الاقتصاد في جامعات ييل ولندن وكلية لندن للاقتصاد، كيف انتهى الأمر ببلدان منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، خلال أزمة النفط التي تسببت في ارتفاع أسعاره بصورة غير مسبوقة في السبعينيات، إلى ضخ الكثير من ثرواتها المكتشفة حديثاً في البنوك الغربية، حتى إن تلك البنوك “لم تعد تعرف جهة يمكنها استثمار تلك الأموال فيها”!

ويقول جرايبر إن “تلك الفترة شهدت إرسال بنكي تشيس وسيتي الأميركيين مندوبيهم حول العالم، في محاولة لإقناع السياسيين والحكام المستبدين في العالم الثالث بالحصول على قروض (فيما عرف وقتها باسم go-go Banking)”، مشيراً إلى أنهم بدأوا بمعدلات فائدة منخفضة للغاية ارتفعت على الفور إلى 20% أو نحو ذلك بسبب السياسات المالية المتشددة في الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات، مؤكداً أن تلك الممارسات، التي أيّدها وعمل على تنميتها صندوق النقد والبنك الدوليان، لعبت الدور الأكبر في نشوء أزمة ديون العالم الثالث خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات.

وأوضح جرايبر أن صندوق النقد الدولي تدخل بعد ذلك لفرض شروطه وبرامجه على الدول الفقيرة والنامية من أجل مساعدتها على الحصول على إعادة التمويل بعد عجزها عن سداد ما اقترضت، وهي اللحظة التي يصر فيها الصندوق دائماً، وحتى يومنا هذا، على ضرورة تخليها عن دعم أسعار الخبز والطاقة، وتقليص العمالة في شركات القطاع العام، وتخفيض الإنفاق على التعليم والصحة.

وفي لقاء جمعني بأحد الأصدقاء من موظفي صندوق النقد العام الماضي في أعقاب تأزم الحالة الاقتصادية بالأرجنتين بعد فوز مرشح الرئاسة الاشتراكي على منافسه المدعوم من الولايات المتحدة، سألت صديقي عن خطوة الصندوق القادمة بعد أن اقتربت البلاد من إعلان الإفلاس والتوقف عن سداد ديونها. فقال لي الصديق الذي كان يشغل وقتها منصب مدير تنفيذي بالصندوق “لا شيء. سننتظر لنعرف ما تريده الولايات المتحدة، ثم نقوم بتنفيذه”!

ما تحدث عنه المسؤول السابق فيما يخص الأرجنتين يسري على نسبة كبيرة من قرارات وسياسات الصندوق، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة وربما بعض الدول ذات المساهمات المرتفعة في الموضوعات التي لا تمثل أهمية كبيرة لواشنطن.

قرارات الصندوق الخاصة بتقديم القروض لبعض الدول ومنعها عن البعض تخضع بالأساس لاعتبارات سياسية، ليتم بعد اتخاذها ترتيب الأوراق الاقتصادية بالصورة التي يمكن إعلانها على الملأ. هكذا حصلت مصر على قروضها من الصندوق، بدعم كبير من السعودية صاحبة واحدة من أكبر المساهمات في الصندوق، في 2016 ثم في العام الحالي، وهكذا لم يتمكن لبنان من الحصول على المساعدة هذا العام رغم احتياجه الشديد لها، وهكذا تحوّلت الأرجنتين من دولة يشاد بأدائها الاقتصادي إلى دولة متعثرة لمجرد أن الصندوق الانتخابي أتى بما لم ترده أميركا.
أما إشادات الصندوق بالأداء الاقتصادي للدول التي حصلت على القروض والتزمت بتعليماته وشروطه فهي شهادة “أم العروس” لابنتها قبل زواجها أملاً في اجتذاب الخاطبين، رغم علمها بعيوب ابنتها التي تعتقد أن أحداً لا ينبغي أن يعرفها، ولا حتى البنت نفسها، حتى لحظة تسليمها لأقرب عريس.

مصدرالعربي الجديد
المادة السابقةالصين تعلن عن منافس قوي لسيارات Camry!
المقالة القادمةعقود السلع الزراعية تحلّق في 2020.. الخشب يرتفع 117% والقمح 10%