نشر مصرف لبنان كعادته بيان الوضع المالي الموجز، الذي يعكس كل نصف شهر أرصدة البنود الأساسيّة في ميزانيّة المصرف. وهذه المرّة، جاء بيان الوضع المالي مرفقًا ببيان الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، الذي أعاد التذكير بتعهّد “مصرف لبنان بنشر بيان الوضع الموجز بصورة واضحة تعكس حقيقة الوضع المالي للمصرف بشفافيّة”. وإلتماسًا لهذه الشفافيّة، عدّل المصرف في عنوان أحد البنود، لتكون قراءة “الخسائر المحققة وتلك المؤجّلة منسجمة مع المعايير والأعراف الدوليّة”. كما أعلن المصرف عن عمله على مشروع مشترك مع صندوق النقد الدولي، بهدف “إعادة النظر بالسياسة المحاسبيّة والإفصاحات الماليّة للتأكيد على اتباع أفضل مبادئ الحوكمة والشفافيّة”.
غير التدقيق في البيان الوضع المالي الموجز، سرعان ما يظهر أن التعديل لم يشمل سوى أحد العناوين المعتمدة في الميزانيّة، للتعبير عن جزء محدود جدًا من الخسائر المتراكمة. أمّا البنود المعتمدة للتصريح عن الجزء الأكبر من الخسائر، وخصوصًا تلك التي أراد الحاكم السابق رياض سلامة تحميلها الدولة اللبنانيّة، فما زالت على حالها. باختصار، ما زالت خلاصة الميزانيّة على حالها: سواء من ناحية حجم الخسائر المتراكمة فيها تحت مسمّى “الموجودات”، أو من خلال عمليّات التزوير التي طرأت عليها في حقبة الحاكم السابق رياض سلامة، والتي حوّلت الجزء الأكبر من الخسائر إلى إلتزامات على الدولة اللبنانيّة. تعددت المسميات والنتيجة واحدة.
التعديل الشكلي في الميزانيّة
منذ بدء تراكم الخسائر في ميزانيّة مصرف لبنان، عمد حاكم المصرف المركزي السابق رياض سلامة إلى إخفاء هذه الخسائر بأساليب محاسبيّة عديدة ملتوية. إحدى هذه الأساليب، كانت تفادي الاعتراف بالخسائر السنويّة المحققة في الميزانيّة، والتي كانت تأكل من موجودات المصرف الفعليّة، مقابل تسجيل موجودات وهميّة غير موجودة إلا على الورق وفي مخيّلة رياض سلامة. من بين هذه الموجودات الوهميّة، كانت ما يعتبره رياض سلامة أرباحاً مستقبليّة ستحقّق يومًا ما من طبع العملة، أي ما يُعرف بالـ”Seigniorage”. ومن المعلوم أن المصرف المركزي يحقق بالفعل مداخيل من هذا النوع، جرّاء خلق النقد، إلا أن قيد الأرباح المتخيّلة في المستقبل، وبكميّات مهولة وغير واقعيّة، كموجودات فعليّة في الميزانيّة، مسألة لا تتسق مع أبسط معايير الشفافيّة والإفصاح المالي.
على أي حال، كان بند الـ”Seigniorage” الغريب هذا جزءًا من بند أكبر يُسمّى “الموجودات الأخرى”، وكان سلامة يتفادى التصريح في بيان الوضع المالي الموجز (النصف شهري) عن تفاصيل البند الأساسي، أي “الموجودات الأخرى”، لتفادي الأخذ والرد أمام الرأي العام. وبهذا الشكل، كان بإمكان سلامة المواظبة على مراكمة الخسائر طوال سنوات طويلة، من دون التعرّض لأي مساءلة فعليّة.
لغاية بداية الشهر الحالي، وبحسب البيان الذي نشره مصرف لبنان، كانت قيمة بند الـ”Seigniorage” تقارب حدود 118.97 ألف مليار ليرة لبنانيّة، أي نحو 7.9 مليار دولار وفقًا لسعر الصرف الجديد المرتفع (15 ألف ليرة للدولار). قد يكون من المفيد هنا التذكير بأن هذه الحيلة كانت قادرة على إخفاء أضعاف هذا الرقم، من الخسائر المحققة، باعتماد سعر الصرف القديم المنخفض. غير أنّ اعتماد سعر الصرف الجديد قلّص قيمة هذا البند إلى أقل من 11% من الخسائر المتراكمة فقط، ما أفقده جدواه في عمليّة إخفاء الخسائر. وهذا تحديدًا ما يفسّر اعتماد سلامة على أساليب أخرى للتحايل وتحويل الخسائر إلى ديون على الدولة، كما سنشرح لاحقًا، في اللحظة التي اعتمد فيها مصرف لبنان على سعر الصرف الجديد المرتفع.
في التعديل الذي قام به الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، قرّر منصوري تأكيد المعروف والمؤكّد، وإنهاء هذه المهزلة: الـ118.97 مليار ليرة ليست موجودات فعلًا، ولا يمكن احتساب قيمة كهذه كمداخيل مؤجّلة تحت مسمّى الـ”Seigniorage”. ولهذا السبب، تم نقل هذا المبلغ من هذه الخانة إلى خانة جديدة، ضمن الموجودات أيضًا، تحت مسمّى “عمليّات السوق المفتوحة المؤجّلة”.
في النتيجة، لم يتم التعامل مع هذه الخسائر. من بين موجودات مصرف لبنان، ستبقى الـ118.97 مليار ليرة كموجودات وهميّة، غير قائمة بالفعل. الفرق الوحيد، هو أنّ الميزانيّة باتت صريحة في اعتبار هذا المبلغ كخسائر لم يتم التعامل معها بعد، ما يفسّر كلمة “المؤجّلة” في تسمية البند. أمّا كيفيّة التعامل مع هذه الخسائر لاحقًا، فستعتمد على خطّة الإصلاح المالي العامّة، تمامًا كما أشار منصوري في البيان نفسه.
على خطى سلامة
في الميزانيّة النصف الشهريّة التي نشرها منصوري، وباستثناء التعديل الشكلي الذي أشرنا إليه، ظلّ إرث رياض سلامة حاضرًا كما هو. الـ16.6 مليار دولار، التي أضافها سلامة في شهر شباط الماضي كدين على الدولة اللبنانيّة، ما زالت مكانها كما هي. مع الإشارة إلى أنّ جميع الميزانيّات النصف الشهريّة التي نشرها مصرف لبنان بعد مغادرة سلامة لمنصبه، استمرّت بالتصريح عن هذا البند وتحت المسمّى نفسه.
ومن المعلوم أنّ هذا الدين المُستجد مثّل في شهر شباط 2023 تزويرًا فاقعًا في الميزانيّة. إذ أنّ سلامة احتسب جميع عمليّات القطع بينه وبين الدولة منذ العام 2007، أي عمليّات تحويل أموال الدولة من الليرة إلى الدولار، ثم اعتبرها بمثابة ديون بمفعول رجعي. ولا يوجد بحوزة سلامة، ولا وزارة الماليّة، أي وثيقة أو عقد اقتراض يبرّر احتساب الدين على هذا النحو، كما لا يوجد أي موافقة من جانب المجلس النيابي على هذه الديون. وعلى أي حال، لم يفسّر سلامة قبل رحيله سبب استفاقة مصرف لبنان على هذا الدين عام 2023، في حين أنّ جميع بيانات الوضع المالي السابقة تغاضت عن ذكره منذ العام 2007.
وعلى خطى سلامة أيضًا، ظلّ بيان الوضع المالي الذي نشره منصوري يعكس نحو 43.15 مليار دولار من الخسائر، في بند مربوط بالمادتين 75 و115 من قانون النقد والتسليف، وهي المواد التي تحتّم على الدولة اللبنانيّة تسديد العجز السنوي المقدّر في ميزانيّة مصرف لبنان. وهذا البند، الذي أضافه سلامة أيضًا في أواخر ولايته الأخيرة، يهدف بشكل أساسي إلى تحويل هذه القيمة من الخسائر إلى إلتزامات على الدولة اللبنانيّة، رغم أنّ نصوص قانون النقد والتسليف المُشار إليها تتحدّث عن عجز دوري وسنوي مصرّح عنها، لا خسائر مصرفيّة تراكمت بشكل إحتيالي على مدى عقدين من الزمن.
ببساطة، ما طرأ من تغيّرات على بيان الوضع المالي لم يتجاوز حدود التغيير الشكلي في أحد مسميات بنود الميزانيّة النصف شهريّة، من دون أن يطال التعديل جوهر التزوير الذي قام به سلامة خلال النصف الأوّل من العام الماضي، ومن دون أن يطال أيضًا آليّة توزيع الخسائر التي يُنتجها هذا التزوير. ولهذا السبب، لا يمكن الحديث عن تقدّم ما على مستوى شفافيّة الميزانيّة النصف الشهريّة، طالما أن التعديلات لم تشمل بعد أرث الحاكم السابق رياض سلامة. ولهذا السبب، قد يكون من الأجدى انتظار مشروع المصرف المركزي مع صندوق النقد، لفهم نوعيّة التغييرات الجذريّة التي ستطرأ على ميزانيّات مصرف لبنان في المرحلة المقبلة.