تنظيم عقد عملٍ بين مصرف لبنان ورجا سلامة (شقيق الحاكم، رياض سلامة)، تحويل الدولارات إلى الخارج من حسابات مصرف لبنان إلى حسابات شركات وأفراد لغاياتٍ شخصية، إصدار شهادات إيداع (مُنتج مالي يعني إيداع مبلغٍ من المال لدى «المركزي» وتجميده لفترة زمنية مُحدّدة، مقابل الحصول على معدّلات فائدة أعلى من تلك المعطاة على الودائع) استنسابياً للمصارف، حرية التصرّف بالدولارات التي أودعتها المصارف في حساب «التوظيفات الإلزامية»، القيام بعربدات مالية (تُسمّى هندسات مالية لإخفاء حقيقتها الجرمية بإعطاء أرباح للمصارف على حساب المودعين والمال العام)، إبرام اتفاقيات مع مؤسسات مالية ومصارف عالمية لتودع مبالغ مالية لدى مصرف لبنان من دون تبرير الغاية منها، إقراض المصارف من الأموال التي سبق أن أقرضتها لمصرف لبنان، المضاربة على العملة الوطنية… غيضٌ من فيض ارتكابات رياض سلامة خلال فترة تولّيه حاكمية مصرف لبنان. 28 عاماً، كان خلالها سلامة الحاكم بأمره، مُحتمياً بقانون النقد والتسليف الذي أعطاه صلاحية مُطلقة، وبالشراكة التي عقدها مع حكّام الجمهورية الثانية ــــ وعلى رأسهم رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري ــــ لـ«إعادة إعمار» لبنان ليكون «كازينو» الشرق، مُستثنيين عن قصدٍ الاهتمام بالتنمية والإنتاج على أنواعه.
ليس رياض سلامة موظفاً «عادياً» ــــ كما يتم التصوير للتخفيف من مسؤوليته عن الانهيار ــــ بل هو «الصانع الحصري للسياسات» (الوصف للبنك الدولي)، وإليه فُوّضت ــــ من دون قانون ــــ صلاحيات هي في الأساس من مسؤولية مجلسَي النواب والوزراء. وبحسب تقرير صادر عام 2017 عن البعثة المشتركة بين صندوق النقد والبنك الدوليين، فإنّ الحاكم «يتولّى التنسيق بين هيئات القطاع المالي، يقوم بأدوار مُتعدّدة، ويمتلك سلطات واسعة… النموذج المُتمحور حول الحاكم، يٌتيح تبادلاً للمعلومات وتنسيقاً فعّالاً، رغم ذلك، فإنّ تطوير القدرات المؤسساتية من شأنه التقليل من التأخّر في اتّخاذ القرارات، أو اتخاذها من دون وجود معلومات كافية». الانطلاق من حقيقة أنّ سلامة هو المُقرّر والمُنفّذ والمراقب وصاحب سلطة المحاسبة، أساسي لفهم تركيبة مصرف لبنان، وآلية اتّخاذ القرار فيه. وقد بدأ يبرز الاهتمام في «فكفكة» هذه التركيبة مع فتح ملفات سلامة القضائية، وتحديداً التحقيق بحقّه في سويسرا بجُرم اختلاس وتبييض أموال، وبعد تعاقد الدولة اللبنانية مع شركة «ألفاريز أند مارسال» لإجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان.
«الهدف الرئيسي معرفة إن كان سلامة قد استغل مركزه للقيام بالأعمال التي يتمّ التحقيق فيها»، يقول مسؤولٌ في إحدى الهيئات المُرتبطة بمصرف لبنان، مُضيفاً بأنّ «كَشف تفاصيل حول الإدارة وعدم وجود فصلٍ بين السلطات داخل كلّ من: لجنة الرقابة على المصارف، الهيئة المصرفية العليا، هيئة الأسواق المالية، لجنة مراقبة هيئات الضمان وهيئة التحقيق الخاصة، قد يؤدّي إلى انهيار كلّ منظومة القطاع المالي، وفرض إعادة هيكلتها كأساس لانطلاقة القطاع على أُسس سليمة». قول مسؤولٌ رسمي سابق إنّه حين تذكر المؤسسات الدولية إعادة هيكلة مصرف لبنان، «فذلك يشمل ثلاث نقاط: عودة البنك المركزي إلى ممارسة دوره الطبيعي، تخفيض نسبة الانكشاف على الدين العام، وآلية العمل في مصرف الدولة»، بعد وجود شُبهات ترتقي إلى مستوى الأدلة عن مخالفة سلامة لقانون النقد والتسليف، والتعدّي على صلاحيات ودور المجلس المركزي لمصرف لبنان المُكوّن من نواب الحاكم والمديرَين العامَّين لوزارتَي المالية والاقتصاد.
الهندسات هي أحد أهمّ القرارات التي اتخذها سلامة مُنفرداً. بدأت في الـ 2014، وأكسبت المصارف أرباحاً فورية بلغت 5.6 مليارات دولار سنة 2016 وحدها، وأرباحاً مستقبلية عبر التوظيفات في سندات دين بالعملات الخارجية. في مقابلةٍ مع قناة «الجديد»، قال المدير العام السابق لوزارة المالية (والعضو السابق للمجلس المركزي لمصرف لبنان) آلان بيفاني، إنّه عَرف بالهندسات مِن الرئيس ميشال عون. «وكلّما طلبنا عرض ملفّ الهندسات على المجلس المركزي، كان سلامة يخلق الأعذار للتهرّب، مُستفيداً من أنّه يحتكر أيضاً وضع جدول أعمال المجلس المركزي، ويرفض مناقشة بنودٍ من خارجه»، بحسب المصادر.
أيضاً، اتخذ سلامة مُنفرداً قرار إصدار شهادات الإيداع للمصارف، كما «التفّ مراراً على صلاحيات المجلس المركزي، حين عقد مباشرةً مع وزير المالية الأسبق، فؤاد السنيورة تحديداً، اتفاق استبدال سندات دين خارجية بدين سيادي مع الدولة»… وصولاً إلى انكشاف العقد مع شركة «فوري ــــ Forry»، أي شقيق سلامة، والتي وقّع معها عقد عمل بأكثر من 330 مليون دولار أميركي، وهو ما أدى إلى فتح تحقيق في سويسرا، ثم لبنان، بحق حاكم المصرف المركزي. ينفي أعضاء المجلس المركزي حين توقيع العقد (2001) علمهم بالاتفاقية أو حتى بشركة «فوري»، رغم أنّ العقد تمّ بناءً على قرار من المجلس المركزي بـ«تكليف الحاكم بالتوقيع». بخضوع المحاضر لسرية المداولات، كيف يظهر إن كان سلامة قد زوّر قراراً للمجلس المركزي أم أنّ الأعضاء ارتكبوا خطأ؟ تُجيب المصادر بأنّ الحاكم «كان يضع جدول أعمال فيه الكثير من البنود، وكلّ بند يتضمن رأي المديرية المعنية، وتُوَزّع البنود على أعضاء المجلس قبل 24 أو 48 ساعة فقط. وحين كنا نطلب تأجيل البحث لمزيد من الدرس، كان يردّ بأنّ الأمر طارئ، وسُرعان ما يطرحه على التصويت». لماذا لم يرفع الأعضاء الصوت ويستقيلوا؟ «في النهاية، يملّ المرء من كثرة الاعتراض وكتابة الرسائل التي تُضيء على الأخطاء، فيما سلطة الحاكم مُطلقة وأحد من السياسيين لا يُريد المسّ به». يعترف أكثر من عضو سابق في المجلس المركزي لمصرف لبنان بأنّه «قد نكون اتّخذنا قرارات تبيّن بعد فترةٍ تأثيرها السلبي على المجتمع، لأنّنا اطلعنا حصراً على المعطيات التي أراد سلامة كشفها لنا»!