منذ منتصف الشهر الماضي، حفلت البلاد بتطوّرات خشي كثيرون أن تقحم اللبنانيين في “فوّهة البركان”، سياسيًا وماليًا واقتصاديًا. دخل لبنان تلك الفترة الزمنيّة وهو ينتظر رد حزب الله على اغتيال فؤاد شكر، ورد إيران على اغتيال إسماعيل هنيّة، مع ما رافق هذا الانتظار من هواجس “الحرب المفتوحة”. ولم يمرّ ردّ الحزب الهادئ في الأسبوع الأخير من الشهر، إلا بالتوازي مع عودة الحديث عن إدراج لبنان على القائمة الرماديّة خلال شهر أيلول، ورحلة الحاكم بالإنابة “الإستباقيّة” إلى لندن لتلقّف تداعيات هذه الحدث. وما زلنا نعيش مخاض هذه الهواجس حتّى الآن.
غير أن مصرف لبنان كان يعيش في كوكبٍ آخر، بعيدًا عن كل ضجيج اللبنانيين: ها هو بيان الوضع المالي الموجز يخبرنا أن المركزي زاد احتياطات العملات الأجنبيّة بـ132 مليون دولار خلال هذه الفترة بالذات، النصف الثاني من آب. وزاد فوقها مكاسبَ في احتياطات الذهب بقيمة 477 مليون دولار، خلال الفترة نفسها. حصيلة الرقمين معًا، تشي بأن المصرف رفع احتياطاته السائلة –أو القابلة نظريًا للتسييل- بقيمة 609 مليون دولار، خلال فترة نصف شهر فقط لا غير. بل وخلال أخطر فترات الحرب التي نشبت منذ 7 أكتوبر الماضي. وكما هي العادة منذ تعديل الميزانيّة العام الماضي، هبطت خسائر المصرف –بفعل هذه الزيادات- بقيمة 471 مليون دولار.
زيادة الذهب والاحتياطات
قيمة الذهب الذي يملكه مصرف لبنان، باتت توازي اليوم حدود 23.4 مليار دولار أميركي، في قفزة مذهلة مقارنة بقيمة هذه الاحتياطات في منتصف الشهر الماضي، والتي لم تكن تتجاوز 22.92 مليار دولار. القفزات في أسعار الذهب العالميّة، باتت جزءًا ثابتًا من مسار القلق إزاء أزمة ماليّة جديدة، أو إزاء تصاعد التوتّرات الجيوسياسيّة. وهذه التوتّرات، لم تكن بعيدة عن الساحة اللبنانيّة بطبيعة الحال. هذه المكاسب، على مستوى أسعار الذهب كانت مفهومة.
أن تسير مصالح المصرف المركزي، بعكس رياح أسواق المال العالميّة، هي ظاهرة محكومة بحجم احتياطات الذهب، وأثرها على ملاءة وسيولة المصرف. وثمّة من يهمس أنّ في “الدولة” من يراهن على أثر هذه التطوّرات في المستقبل، لإطفاء نسبة من الخسائر المعلّقة، وهو ما يحدث بالفعل تدريجيًا. خطوة ربط الخسائر بقيمة الذهب، بما يسمح بتخفيضها مقابل زيادة قيمة احتياطات المعدن الثمين، كانت تهدف للذهاب بهذا الاتجاه.
احتياطات مصرف لبنان باتت توازي اليوم 10.8 مليار دولار أميركي، مقارنة بـ 10.66 مليار دولار خلال منتصف شهر آب. بهذا الشكل، واظب المصرف المركزي على جمع الدولارات، مستفيدًا من تدخّله شاريًا للعملة الصعبة من السوق، وفق السياسة المعتمدة منذ أكثر من سنة. هكذا، بات حجم الدولارات التي اشترتها “القيادة الجديدة” في المصرف المركزي، منذ رحيل رياض سلامة، يقارب الملياري دولار أميركي. طوال تلك الفترة، لم يتأثّر هذا النمط بكل المواجهات التي بدأت منذ تشرين الأوّل، كما لم يتأثّر بالتداعيات السلبيّة التي أصابت القطاع السياحي، رافدة العملة الصعبة في البلاد.
الدولة “الثريّة”.. على الورق!
كان من المفترض طبعًا أن تتضخّم الكتلة النقديّة المتداولة في السوق، بالليرة اللبنانيّة، بفعل شراء كل هذه الدولارات مقابل ليرات نقديّة. غير أنّ مصرف لبنان تمكّن خلال تلك الفترة من تخفيض حجم الكتلة النقديّة هذه: من 59.63 ترليون ليرة لبنانيّة، في منتصف آب، إلى 57.19 ترليون ليرة لبنانيّة في نهاية الشهر. بهذا الشكل، امتص مصرف لبنان سيولة بالليرة اللبنانيّة، توازي قيمتها 27.39 مليون دولار، خلال فترة 15 يومًا فقط. المصرف المركزي، لم يرفع احتياطاته فقط، بل فعلها مع ضبط حجم الليرات المتداولة في السوق. وبذلك حقق المصرف هدفين، كان يفترض أن يتعارضا، لا أن يتكاملا. مرّة جديدة: كل ذلك يحصل، وكأن المصرف المركزي يعيش في كوكب آخر أو دولة أخرى.
حساب الدولة لدى مصرف لبنان، أو ودائع القطاع العام كما يسمّيها البيان الموجز، يفسّر أحد أوجه هذه التطوّرات. هذه الودائع ارتفعت قيمتها، لتناهز 5.76 مليار دولار في نهاية آب، مقارنة بـ5.37 مليار دولار في منتصف الشهر. أو بعبارة أخرى، رفعت الدولة حجم “مدخراتها” (؟) في مصرف لبنان، بأكثر من 381 مليون دولار أميركي.
على الورق، توحي هذه التطوّرات أنّنا أمام دولة ثريّة، تملك الفوائض وتراكمها، لا عن دولة تحار في كيفيّة تمويل شراء شحنة الفيول المقبلة. لا عن دولة بإدارات عامّة مُعطّلة، بانتظار تصحيح الاعتمادات والأجور، وتسديد فواتير الكهرباء المترتبة على الوزارات والمؤسسات العامّة. في ميزانيّة مصرف لبنان، الدولة كما مصرفها المركزي، في كوكب آخر.
ما يحدث لم يعد عصيًا على الفهم، بعد سنة وشهر من استلام القيادة الجديدة لدفّة إدارة مصرف لبنان. هو استمرار للسياسة النقديّة نفسها، القائمة على امتصاص الليرات من السوق، عبر تحصيل الضرائب والرسوم، والامتناع عن إنفاقها. ومن ثم استعمال الواردات ذاتها بالليرة، لشراء الدولارات، ومراكمة العملة الصعبة في مصرف لبنان. المشهد طبيعي جدًا: سياسة نقديّة مشوهة، تحمّل وزر الاستقرار النقدي القائم للمال العام، وتهشيم الإدارات العامّة. سياسة من هذا النوع، لا تؤثّر فيها الحروب، ولا التوتّرات الإقليميّة أو اللوائح الرماديّة، أو التحقيقات القضائيّة الأخيرة، طالما أنّها لا تقوم على اقتصاد طبيعي أصلًا.