مصير التعميم 151: المصارف تستقوي بميقاتي ضد مصرف لبنان

ما زال التجاذب قائمًا بين المصارف اللبنانيّة والمصرف المركزي، بخصوص مصير التعميم 151، الذي امتنع مصرف لبنان عن تجديده بشروطه السابقة منذ نهاية السنة الماضية. مع الإشارة إلى أنّ هذا التعميم كان يؤمّن السحوبات بالليرة وبسعر صرف 15 ألف ليرة للدولار، أي بنسبة 17% من قيمة الدولار في السوق. وكان التعميم 151 يغطّي –قبل نهاية السنة- السحوبات من الدولارات المحليّة التي تحرّكت في الحسابات المصرفيّة بعد تشرين الأوّل 2019، أي تلك التي لم يشملها التعميم 158 الذي يؤمّن دفعات شهريّة بالدولار النقديّة.

وبعد أن رفض المصرف المركزي تجديد التعميم لعدم تحمّل مسؤوليّة الاقتطاع من قيمة تلك الودائع، ومنذ محاولة الحاكم بالإنابة وسيم منصوري تعديل التعميم وتأمين دفعات شهريّة بالدولار النقدي لأصحاب تلك الحسابات، خاضت المصارف معركة شرسة لتفادي هذا السيناريو، بحجّة عدم توفّر السيولة.

انكشاف المصارف: ليست مشكلة سيولة
حين طرح الحاكم بالإنابة وسيم منصوري تأمين دفعات شهريّة بقيمة 150$، للحسابات المستفيدة من التعميم 151، قامت قائمة المصارف التجاريّة، التي اعتبرت أن خطوة من هذا النوع ستؤدّي إلى “تفليس” عدد كبير من المصارف، غير القادرة على تأمين هذا المبلغ.

مع الإشارة إلى أنّ فكرة منصوري تضمّنت تحمّل مصرف لبنان مسؤوليّة تأمين نصف الكلفة، من احتياطاته، على أن تقتصر مسؤوليّة المصارف على تأمين النصف الآخر. وعلى أي حال، لم يكن هذا الإجراء ليشمل سوى جزء محدّد من الحسابات المصرفيّة المدولرة، وهي تلك التي لا تستفيد من التعميم 158.

تطوّرات اليومين الماضيين كشفت الكثير بما يخص نوايا المصارف، وخلفيّة تعنّتها ضد مقترح منصوري. فبعد طرح فكرة تسديد هذه الدفعة الشهريّة بالليرة اللبنانيّة، وبسعر صرف السوق الفعلي، ثارت مجددًا ثائرة “مصادر وأوساط” القطاع المصرفي، والخبراء الذين يدورون في فلكه. فرغم أنّ هذه الفكرة لا تحمّل المصارف فعليًا أي كلفة نقديّة بالعملة الصعبة، بل تحمّل الكلفة للمصرف المركزي، الذي يملك قدرة خلق النقد لتسديد الدفعات من ودائع المصارف لديه، اعترضت المصارف على الفكرة مرّة أخرى، وبطريقة اعتراضها نفسها على فكرة تسديد دفعة الـ150$.

هكذا، كشف هذا الموقف أنّ مشكلة المصارف لم تكن منذ البداية مشكلة سيولة دولاريّة. مشكلة المصارف الفعليّة، عبّرت عنها المصادر المصرفيّة نفسها في حديثها مع وسائل الإعلام خلال الساعات الماضية، من خلال التذكير بأن هذه الودائع هي ودائع “غير مؤهّلة”، ومن ثم التساؤل عن سبب “تحويل سحب” هذه الودائع إلى الدولار أو ما يوازي قيمته الفعليّة بالليرة. بمعنى أوضح، تسأل المصارف عن مغزى العودة للتعامل مع هذه الدولارات “غير المؤهّلة” كدولارات فعليّة، كما يتم التعامل مع الودائع الخاضعة للتعميم 158، التي تستفيد من سحوبات نقديّة بالدولار.

ممنوع إعادة الاعتبار للودائع “غير المؤهلة”
ببساطة، مشكلة المصارف هي مع فكرة إعادة الاعتبار لما تعتبره “ودائع غير مؤهّلة”. وهي الودائع التي دفنها الحاكم السابق رياض سلامة من خلال التعميم 151، الذي حصر سدادها بآليّات تقتطع 83% من قيمتها، من خلال سعر الصرف المعمول به لهذه السحوبات. مشكلة المصارف، هي إعطاء حق مكتسب لأصحاب هذه الودائع، والعودة للنظر إليها كإلتزامات فعليّة بالدولار، كحال الودائع المستقرّة في حساباتها منذ تشرين الأوّل 2019، بدل أن تبقى ودائع “درجة ثانية” خاضعة لاقتطاعات دائمة من قيمتها.

هكذا، وبمجرّد منح المستفيدين من التعميم 151 هذه السحوبات الدولاريّة، أو ما يوازيها بالليرة، ستخسر المصارف ما تم تحقيقه على مدى السنوات الماضية، من خلال تطبيع التمييز بين الودائع المؤهّلة وتلك “غير المؤهلة”. ولهذا الأمر تبعاته الخطيرة: فعدم تمييز الودائع المؤهلة و”غير المؤهّلة” اليوم، سيزيد من صعوبة تمرير هذا التمييز في مرحلة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. لن يكون من السهل فرض الودائع “غير المؤهلة” كفئة مستقلّة من الحسابات، إذا اكتسب أصحاب هذه الودائع حقوق السحب النقدي، كحال أصحاب الودائع المؤهلة. وتحييد الودائع “غير المؤهلة” عن الاقتطاع من قيمة السحوبات اليوم، سيمهّد لمطالبة المودعين بضمان قيمتها حتّى سقف معيّن، كحال الودائع المؤهلة.

لهذا السبب، إعطاء ودائع التعميم 151 حق السحب، من دون اقتطاع، يساوي بالنسبة للمصارف تكريس قيمة هذه الودائع كإلتزام حقيقي في الميزانيّات، وتكريس وضعيّتها الطبيعيّة كدولارات موازية بقيمتها وشأنها لدولارات الودائع المؤهّلة. وما دفنه رياض سلامة بالتعميم 151، من ودائع غير مؤهلة، لا يجب أن ينبشه وسيم منصوري، بمحاولة تعديل هذا التعميم!

الاستقواء بنجيب ميقاتي
خلال يوم أمس الخميس، تحرّكت الماكينات الإعلاميّة لبعض المصارف، لتسويق وتسريب أخبار عن اللقاء الأخير بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، يوم الأربعاء الماضي.

وكعادتها، جاءت هذه التسريبات نقلًا عن “مصادر ماليّة”، لتشير إلى وجود خلافات حادّة بين الحاكم بالإنابة ورئيس الحكومة، حول سعر الصرف الذي سيتم اعتماده للسحوبات المصرفيّة. وحسب المصادر المصرفيّة، رأى ميقاتي أن اعتماد سعر صرف السوق الفعلي للسحوبات النقديّة من المصارف سيمثّل “خطوة غير منطقيّة في الظروف الراهنة”، من دون أن توضّح المصادر معنى هذه العبارة. وجاء موقف ميقاتي هذا في مواجهة مسعى منصوري، لاعتماد سعر صرف السوق كآليّة بديلة لآليّة التعميم 151.

غني عن القول أن الحاكم بالإنابة، بحكم عمله، أكثر اطلاعًا من ميقاتي على حجم وحركة الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة في السوق. أي بمعنى آخر، حين يعتبر ميقاتي أن تصحيح سعر صرف السحوبات لن يكون خطوة “منطقيّة”، فهو لا يشير إلى مسألة التوازنات النقديّة طبعًا، ولا يقصد المزايدة على منصوري في الغيرة عليها، خصوصًا أن منصوري هو المعني والمتخصّص الأوّل والأساسي بمسألة توازن واستقرار سعر صرف الليرة. ومن المعلوم أن تصحيح سعر صرف السحوبات لا يفرض بالضرورة ضخ كتلة كبيرة من الليرات في السوق، إذ يمكن للمصرف المركزي في الوقت نفسه أن يتحكّم بسقف السحوبات للسيطرة على هذا المتغيّر.

ما يستنكره ميقاتي، هو استباق مشروع قانون استعادة التوازن للانتظام المالي، من قبل مصرف لبنان، عبر تكريس قيمة الدولارات “غير المؤهلة” بسعر صرف السوق نفسه، عند إجراء السحوبات. وبهذا الشكل، سيكون منصوري قد حشر ميقاتي، وحال دون اعتماد أسعار صرف منخفضة للسحب من الودائع غير المؤهلة، في إطار مشروع القانون. إذ لن يكون بإمكان المجلس النيابي –لأسباب سياسيّة- أن يشرّع اقتطاع جزء من قيمة هذه السحوبات، عبر سعر صرف منخفض، بعد أن يكون منصوري قد أعاد الاعتبار إليها اليوم باعتماد سعر صرف السوق.

الذهاب إلى آخر مسودّة أعدتها الحكومة، من مشروع قانون استعادة التوازن للانتظام المالي، يؤكّد كل ذلك. هناك، يمكن للمرء أن يجد تصنيف مشروع القانون للودائع غير المؤهلة، ويمكن أن يجد كذلك خطّة القانون للتعامل مع هذه الودائع كودائع درجة ثانية، عبر اعتماد أسعار صرف منخفضة للسحب منها. بذلك، كانت خطّة ميقاتي تقوم أساسًا على فرض هيركات مقنّع على الودائع غير المؤهلة، عبر لعبة تعدد أسعار الصرف. أمّا اعتماد سعر صرف واقعي للتعامل مع هذه الودائع اليوم، بدل التمهيد للهيركات بالتعميم 151 كما فعل سلامة سابقًا، فسيصعّب تمرير خطّة ميقاتي.

بهذا الشكل، يتقاطع ميقاتي مع جمعيّة المصارف في مسعاها لمنع تأمين السحوبات النقديّة بالدولار، للمستفيدين من التعميم 151. ويتقاطع كذلك معها في موقفها الرافض لتأمين السحوبات بالليرة، بسعر الصرف الفعلي. أمّا الأهم، فهو أن مصارف لبنان تستقوي برئيس الحكومة، في وجه رأس السلطة النقديّة، الذي يملك سلطة الوصاية عليها. وهي في الوقت نفسه، تشجّع على مبدأ تدخّل السلطة السياسيّة بتوازنات وإجراءات السلطة النقديّة، لحسابات ومصالح ماليّة بحتة، في ابتعاد صارخ عن مفهوم استقلاليّة السلطة النقديّة، الذي يدافع عنه المصرفيون في العادة.

 

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالنفط يتماسك بدعم سياسات «أوبك بلس»
المقالة القادمةالقطاع البترولي… بين فقدان البوصلة وضياع الطريق