مصير سيولة المصارف الخاصّة في سيناريو الحرب

تنقسم موجودات القطاع المصرفي الخارجيّة، التي تشمل حساباته بالعملة الصعبة، إلى قسمين: احتياطات مصرف لبنان، المتأتية من إيداعات المصارف التجاريّة لديه، وحسابات المصارف التجاريّة الخاصّة في الخارج، أي ودائعها لدى المصارف المراسلة. هذه الموجودات، تعبّر في العادة عن مستويات السيولة المتوفّرة في القطاع، والتي يمكن أن تمثّل وسادة ماليّة خلال الأزمات التي يصاحبها الطلب المرتفع على العملات الأجنبيّة. وبينما ترتبط كفاية احتياطات مصرف لبنان بأدوات إدارة السياسة النقديّة، التي ينتهجها المصرف للسيطرة على سعر الصرف، تقتصر أهميّة حسابات المصارف التجاريّة على تمكينها من تنفيذ العمليّات المصرفيّة التقليديّة.

وغالبًا ما يتم التركيز على كفاية احتياطات مصرف لبنان، عند تناول كفاية سيولة القطاع، بالنظر إلى حساسيّة الجانب المتعلّق بالتوازنات النقديّة في سوق القطع. ومع ذلك، يبقى من المهم تناول كفاية سيولة المصارف الخاصّة، وخصوصًا عن تقييم أثر أي تصعيد عسكري محتمل، بالنظر إلى أهميّتها لفتح الاعتمادات والقيام بالتحويلات وتأمين السحوبات من حسابات “الدولار الطازج” وغيرها من الخدمات الحسّاسة. وفي حالة لبنان، باتت الأزمة التي يمر بها القطاع المصرفي منذ العام 2019 تفترض البحث عن أثر هذه السيناريوهات، خصوصًا بعدما عانت المصارف –خلال فترات معيّنة- من عجز كبير في صافي موجوداتها الخارجيّة، وهو ما عرّضها لخطر التعسّر في علاقتها الماليّة مع الخارج، ومن ثم مواجهة احتمالات العزلة الماليّة الكاملة.

كفاية الحسابات الخارجيّة
آخر الأرقام التي نشرها مصرف لبنان، تشير إلى أنّ موجودات المصارف التجاريّة اللبنانيّة لدى القطاع المالي غير المقيم بلغت حدود 4.41 مليار دولار أميركي، في نهاية شهر حزيران الماضي. هذه الموجودات، تتركّز بشكل أساسي في السيولة التي تملكها المصارف اللبنانيّة، في حساباتها لدى المصارف المراسلة الأجنبيّة، والتي يتم استعمالها في العادة لتنفيذ التحويلات لمصلحة العملاء، أو فتح الاعتمادات المستنديّة، أو طلب الأموال النقديّة بالعملة الصعبة. كما يشمل هذه الرقم استثمارات مختلفة طويلة الأجل، يتم استعمالها كاحتياطات استراتيجيّة مُدرّة للفوائد أو العوائد، يمكن بيعها عند الحاجة. لكن في جميع الحالات، ونظرًا لطبيعة عمل المصارف التجاريّة، التي تختلف عن المصارف الاستثماريّة، لا يفترض أن يشمل هذا الرقم توظيفات أو استثمارات عالية المخاطر.

لفهم حجم الرقم، في معادلة الاحتياطات التي يملكها القطاع المصرفي بشكل عام، يمكن الإشارة إلى أنّه يوازي نحو 42% من إجمالي الاحتياطات التي يملكها مصرف لبنان، والتي تعود بدورها –نظريًا- للمصارف التجاريّة أيضًا. وتجدر الإشارة إلى أنّ المصرف المركزي يرصد في العادة التغيّرات في صافي الموجودات الخارجيّة للمصارف التجاريّة ومصرف لبنان معًا، بهدف احتساب الرقم الإجمالي لميزان المدفوعات، وفق منهجيّة ما زالت تفترض أن القطاع المصرفي يعبّر عن حركة الأموال الشاملة بين لبنان والخارج. وبشكل عام، يمكن القول أن إجمالي احتياطات مصرف لبنان، إضافة إلى موجودات المصارف الخارجيّة، باتا يشكّلان معًا اليوم نحو 14.86 مليار دولار أميركي، أي نحو ثلاث أرباع الناتج المحلّي الإجمالي.

المقارنة مع الالتزامات في الخارج
مقاربة الرقم الذي يعبّر عن الموجودات الخارجيّة وحده، لا تكفي. إذ مقابل هذه الموجودات، ثمّة التزامات مترتبة على المصارف في الخارج أيضًا، وهي التزامات يقتضي سدادها من سيولة المصارف الخارجيّة. وهذا تحديدًا ما يفرض البحث عن الصافي أو العجز الذي سيترتّب على القطاع، بعد حسم الالتزامات الخارجيّة من الموجودات الخارجيّة، وهو ما يسمح بفهم مستوى كفاية السيولة، وقدرة هذه السيولة على امتصاص الصدمات التي يمكن أن تنتج عن أي تصعيد أو أزمة مستقبليّة، ومنها سيناريو الحرب على سبيل المثال.

لغاية أواخر شهر حزيران الماضي، كان قد ترتّب على القطاع المصرفي اللبناني ما يقارب 2.66 مليار دولار أميركي، من الالتزامات لمصلحة القطاع المالي غير المقيم، أي للمصارف والمؤسسات الماليّة الأجنبيّة. وعند مقارنة الرقمين، يمكن الوصول إلى خلاصة مفادها أنّ القطاع المصرفي اللبناني بات يملك فائضًا –في علاقته مع الخارج- بنحو 1.75 مليار دولار أميركي. وهذا الرقم لا يأخذ بالاعتبار طبعًا الالتزامات المتوجبة لمصلحة المودعين غير المقيمين، الذين يعانون من تصنيف ودائعهم كدولارات محليّة، شأنها شأن ودائع المقيمين في لبنان.

من المهم التنويه هنا إلى أن تسجيل هذا الفائض كان مسألة استجدّت خلال السنة الماضية، بعدما اعتادت المصارف على تسجيل عجوزات متتالية في علاقتها مع الخارج، منذ بداية الأزمة الماليّة. وجاء هذا التطوّر بفعل بيع المصارف جزءاً من أصولها الموجودة في الخارج، وامتثالها لتعاميم مصرف لبنان التي تفرض تكوين سيولة جاهزة مقابل الدولارات الطازجة التي تتلقاها من المودعين، فضلًا عن تكوينها نسب من احتياطات بحسب حجم الودائع الموجودة لديها.

وبذلك، يمكن القول أنّ الفائض الموجود لدى المصارف في الخارج، يوازي أو يقل بنسبة محدودة قيمة الدولارات الطازجة المودعة لديها، والتي يمكن استخدامها في التحويلات أو السحوبات النقديّة. مع العلم أن الميزانيّات المصرفيّة لا تقدّم أي تقدير دقيق لحجم الدولارات الطازجة، الموجودة ضمن ودائعها، والتي يتفاوت حجمها بشكل كبير بين شهر وآخر. غير أن بعض التقديرات غير الرسميّة تشير إلى أنّ متوسّط حجم هذه الودائع يوازي الملياري دولار.

في النتيجة، يمكن الإشارة إلى أن السيولة الجاهزة للاستعمال لدى المصارف تكفي لتغطية حاجاتها الراهنة، لتمويل السحوبات أو التحويلات من “الحسابات الجديدة” وفق تصنيفات مصرف لبنان. وتوفّر هذه الأموال، يمكن أن يمثّل الوسادة الماليّة التي تحتاجها المصارف، لفتح الاعتمادات أو تقديم الخدمات الأساسيّة خلال أي فترة توتّر محتملة، حتّى في حال ارتفاع الطلب على هذه الخدمات بشكل مفاجئ. غير أنّ هذا الفائض لا يقدّم أو يؤخّر بطبيعة الحال، عند مقاربة أزمة القطاع الأكبر، المتعلّقة بالودائع القديمة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةمرفأ جونية ليس مؤهلاً للسفن الكبيرة في طوارئ الحرب
المقالة القادمةالدولارات المجمّدة والمزورة تغزو سوريا..3 مليارات مُتداولة في السوق