حتّى نهاية مساء يوم الجمعة الماضي، كانت سندات اليوروبوندز اللبنانيّة –أي سندات الدين العام بالعملات الأجنبيّة- قد سجّلت ارتفاعًا إلى مستويات تلامس حدود الـ 6.75 سنت للدولار الواحد، أي إلى 6.75% من قيمة السند الإسميّة أو الأصليّة. وهذا ما مثّل قفزة كبيرة في أسعار السندات، مقارنة بسعرها قبل أسبوع واحد بالتمام والكمال، والذي لم يتجاوز حدود الـ 6.375 سنت للدولار. بهذا المعنى، ارتفعت قيمة السندات خلال أسبوع واحد فقط، بنسبة تتجاوز الـ 11%. وبذلك سجّلت سندات اليوروبوندز مساء أمس أعلى سعر لها منذ بداية الاشتباكات في الجنوب، أي منذ أكثر من سبعة أشهر.
ما تعنيه هذه المعطيات، هو أنّ ثمّة لاعبين قرّروا هذا الأسبوع دخول السوق أو زيادة حيازاتهم كمشترين، عبر عرض أسعار أعلى –وبنسب وازنة- من الأسعار الرائجة قبل أسبوع واحد فقط. المضاربة على أسعار السندات، لم ترتبط هذه المرّة بأي تطوّر سياسي إيجابي على مستوى انتخابات الرئاسة، أو مفاوضات التهدئة في الجنوب. كما لم ترتبط بأي انفراجة على صعيد خطّة التعافي المالي أو سائر الملفّات الاقتصاديّة. ببساطة: من يضارب اليوم يراهن على عوامل مرتبطة بالسندات نفسها، وهو ما يطرح السؤال عن المعلومات التي يملكها المضاربون، وعن هويّة الجهات التي تضارب على سندات اليوروبوند، أو عن إمكانيّة وجود تضارب معيّن في المصالح.
فرضيّات تفسّر حركة السوق
السؤال الأوّل الذي يطرح نفسه، يرتبط بالرهان الذي يدفع أي مُضارب لشراء هذه السندات خلال الأسبوع الراهن، وبأسعار مرتفعة مقارنة بأسعارها خلال الأسبوع الماضي. فارتفاع الأسعار هذا الأسبوع، يعني بالضرورة وجود جهات قامت بعرض أسعار أعلى من الأسعار الرائجة أساسًا، للتمكن من الحصول على السندات.
الإجابة على هذا السؤال، كما أشرنا سابقًا، يفترض أن ترتبط بعوامل تتعلّق بمستقبل هذه السندات، بغياب أي تتطوّر اقتصادي أو سياسي إيجابي آخر. وهذا ما يربطه المتابعون اليوم بواحدة من فرضيّتين:
– الفرضيّة الأولى، ترجّح أن يكون هناك جهات مستعدة للرهان على اتجاه الحكومة لإعادة شراء مجموعة من سندات اليوروبوندز المتداولة بالسوق، وبقيمة لا تتخطّى الـ 3 مليار دولار، وفقًا للأنباء التي تم تسريبها الأسبوع الماضي. وهذا ما يثير الاشتباه بوجود مجموعة من اللاعبين الذين يملكون معلومات حول السعر الذي ستعرضه الدولة اللبنانيّة مقابل إعادة شراء السندات، والذي يفترض أن يقارب سعر السوق أو يتجاوزه بهامش محدود جدًا. مع الإشارة إلى أنّ السوق لم تتفاعل الأسبوع الماضي مع هذه التسريبات، كما تبيّن من حركة الأسعار. وهذا ما يعزّز الاعتقاد بوجود معلومات حصريّة استفادت منها جهات معيّنة، خلال الأسبوع الراهن، بخصوص طبيعة وتفاصيل عمليّة “إعادة الشراء” المحتملة.
– أمّا الفرضيّة الثانية، فتربط ما بين هذه المضاربات واقتراب مرحلة تلقي التحرّكات القانونيّة ضد الدولة اللبنانيّة، من جانب حملة سندات اليوروبوندز، أمام محاكم نيويورك. ومن المعلوم أن صدور الأحكام القانونيّة لمصلحة هذه الشريحة من المستثمرين، ستضع الدولة اللبنانيّة في موقع تفاوضي أصعب، بمجرّد انتقالهم من فئة “الدائنين” إلى فئة “المستفيدين من أحكام قانونيّة”. إذ بمجرّد صدور الأحكام، سيكون على الدولة التفاوض مع حامل كل سند على حدة، بدل فرض تسويات بموافقة 75% من حملة كل شريحة من السندات. وسيكون من المتوقّع بدء المطالبات القانونيّة من جانب حملة السندات، قبل شهر آذار المقبل، حيث تنتهي بحلول هذا التاريخ المهلة التي يملكها حملة السندات للمطالبة القانونيّة بالفوائد.
بما يخص الفرضيّة الثانيّة، من المهم الإشارة إلى أنّ جميع المعلومات المتداولة ترجّح اتجاه حملة السندات إلى محاولة الحجز على احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة، المودعة في الخارج، بغياب أي أصول سياديّة أخرى يمكن الحجز عليها. ومن المتوقّع أن يصوّب حملة السندات على بعض الممارسات التي قام بها المصرف المركزي على مدى السنة الماضية، والتي يمكن استعمالها كسلاح قانوني لنزع الحصانة على موجوداته. ومن هذه الممارسات مثلًا تحويل بعض الخسائر المصرفيّة إلى ديون على الدولة اللبنانيّة، من خلال عمليّات تحمّل المصرف المركزي شبهات الاحتيال والتزوير في الميزانيّات.
من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن العودة للاشتباه بتضارب المصالح مجددًا: هل هناك أطراف محليّة شجعت على منح حملة السندات -عن قصد- هذه الأوراق القانونيّة القويّة؟ وهل تملك هذه الأطراف مصلحة ما في تقوية الموقف القانوني لهؤلاء المستثمرين؟ وعلى هذا الأساس يُطرح السؤال الأخطر، ألا يمكن أن تكون هذه الأطراف نفسها، هي من يضارب على سندات اليوربوندز عبر شرائها قبيل بدء مرحلة المطالبات والملاحقات القانونيّة؟
لماذا يخفون هويّة حملة السندات؟
السؤال عن تضارب المصالح، يفتح باب التساؤل عن هويّة حملة السندات الحاليين، الذي ستضطر الدولة إلى مفاوضتهم أو مواجهتهم في المحاكم الأميركيّة. الإشكاليّة الأساسيّة هنا، هي أنّ الدولة اللبنانيّة لم تبادر حتّى هذه اللحظة إلى فتح باب التفاوض مع هؤلاء المستثمرين، بعد تحديد هويّاتهم، وحجم حصّة كل منهم من السندات المتداولة.
ولهذا السبب بالذات، ستبقى سوق سندات اليوروبوندز اللبنانيّة مشرّعة أمام كل أشكال المضاربات وتضارب المصالح، طالما أنّ الدولة لا تعرف حتّى اللحظة هويّة مالكيها. وتجدر الإشارة إلى أن ضبط وتحديد هويّات هؤلاء المستثمرين كان يفترض أن يكون أولويّة منذ اتخاذ قرار التخلّف عن الدفع، بعدما بات أي قرار سياسي أو مالي محلّي يترك أثرًا على قيمة السندات ومستقبلها. إذ يفرض هذا الواقع وضع الضوابط الكفيلة بمنع استفادة أي طرف لبنان من نفوذه لجني مكاسب في أسواق الدين، عبر التأثير على وضعيّة او أسعار السندات.
في جميع الحالات، تكمن المشكلة الأهم اليوم في غياب أي تصوّر من جانب الحكومة اللبنانيّة لكيفيّة مقاربة ملف حملة سندات اليوروبوندز. وهذا ما يجعل التوصّل إلى تسوية ما، وإعادة هيكلة السندات، مستبعدًا قبل الدخول في مرحلة الدعاوى والمطالبات القانونيّة، وهو ما سيفرض تفاوض الدولة اللبنانيّة لاحقًا تحت ضغط الأحكام القضائيّة. وفي النتيجة، ستضطر الدولة اللبنانيّة إلى القبول بشروط مجحفة لعمليّة إعادة الهيكلة، مقارنة بتلك التي كان يمكن الاتفاق عليها في الماضي. أمّا المؤكّد أيضًا، فهو أنّ الوصول إلى اتفاق من هذا النوع سيكون مستحيلًا، قبل إنجاز التفاهم النهائي مع صندوق النقد الدولي.