كما هو معلوم، تمثّل سندات اليوروبوند إحدى أدوات الدين التي تصدرها الحكومات للاقتراض بالعملات الأجنبيّة، بحيث تمثّل القيمة الإسميّة للسند المبلغ الذي اقترضته الحكومة عند الإصدار، والذي يفترض أن تسدده لحامل السند عند الاستحقاق، على أن يتم تسديد الفوائد المحددة سلفًا بشكل دوري. خلال هذه المدّة، التي يمكن أن تمتد لسنوات طويلة، أي بين إصدار السند واستحقاقه، يمكن تداول السندات وفق قيمته السوقيّة، التي تختلف عن القيمة الإسميّة. وتقلّب أسعار السند في السوق، بمعزل عن القيمة الإسميّة التي ستُسدد عند الاستحقاق، يعتمد على عوامل عدّة، مثل تبدّل مستوى مخاطر الدولة، أو تقلّب عوامل العرض والطلب على السند نفسه، أو حتّى تبدّل أسعار الفوائد العامّة في السوق.
فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يؤدّي ارتفاع مخاطر ديون دولة معيّنة إلى انخفاض أسعار سنداتها السياديّة في السوق، لتراجع الطلب عليها، ولترقّب المستثمرين فارقًا (أي ربحًا) أعلى بين قيمة شراء السند السوقيّة، وقيمة تسديده الإسميّة عند الاستحقاق، من أجل التعويض عن ارتفاع المخاطر. أمّا ارتفاع أسعار الفوائد بشكل عام في السوق، فيخفّض من قيمة السندات السوقيّة أيضًا، ليتلاءم الفرق (أي مجددًا، الربح) بين سعر الشراء وقيمة تسديد السند عند الاستحقاق، مع نسبة الفوائد الجديدة المرتفعة في السوق، خصوصًا أن المبلغ الذي تدفعه الحكومة لحامل السند كفوائد سيبقى ثابتًا بمعزل عن تبدل الفوائد الرائجة في السوق.
مضاربات على سندات اليوروبوند اللبنانيّة
كل ما تقدّم من شرح تقني رتيب –وربما مضجر للبعض- كان ضروريًا قبل شرح ما يجري في سوق سندات اليوروبوند اللبنانيّة. فمنذ ما قبل الانهيار، كان تدهور سعر هذه السندات أولى العلامات التي دلّت على خشية الأسواق العالميّة من السلامة الإئتمانيّة للدولة اللبنانيّة، بالتوازي مع تفاقم أزمة السيولة محليًا. وقبيل إعلان الدولة اللبنانيّة تخلفّها عن تسديد هذه السندات بالذات، في آذار 2020، انخفضت أسعار هذه السندات مجددًا، بعدما تسابقت المصارف اللبنانيّة على عرضها للبيع للمستثمرين الدوليين في الأسواق الخارجيّة.
ومنذ إعلان توقّف الدولة اللبنانيّة عن تسديد هذه السندات، وعدم مباشرتها أي مفاوضات لإعادة هيكلة الديون بالعملات الأجنبيّة، واظبت السندات على تسجيل انخفاضات متتالية في قيمتها، مع تراجع آمال المستثمرين بقدرتهم على تحصيل نسبة وازنة من قيمة ديون الحكومة اللبنانيّة بالعملة الصعبة.
وفي النتيجة، بلغت هذه الانخفاضات حد بيع سندات اليوروبوند بنحو 5 سنت للدولار الواحد، أي أن قيمة البيع السوقيّة بلغت نحو 5% فقط من قيمة السند الإسمي، التي كان يفترض تسديدها عن الاستحقاق. مع الإشارة إلى أنّ بعض صناديق الاستثمار العالميّة تختص بشراء هذا النوع من السندات الرخيصة، وبهذه الأسعار المنخفضة، بالرغم من تعثّر جهة الإصدار، أي الدولة اللبنانيّة، لمحاولة تحصيل نسبة أكبر من قيمة السندات لاحقًا بعد إعادة هيكلة الدين العام اللبناني. وفي أواخر عام 2022 بالتحديد، كانت القيمة السوقيّة لسندات اليوروبوند اللبنانيّة قد تدنّت إلى ما دون ال5.5 سنت للدولار، في إشارة إلى تضاءل الآمال بمستقبل الأزمة الماليّة اللبنانيّة.
لكن على نحو مفاجئ، وخلال هذا الشهر، شهدت سندات اليوروبوند اللبنانيّة ارتفاعات مفاجئة وغير متوقّعة في قيمتها السوقيّة، ليتجاوز سعر البيع في منتصف هذا الشهر حدود الـ 8 سنت للدولار. أي بصورة أوضح، شهدت سندات اليوروبوند ارتفاعًا نسبته 60% في قيمته السوقيّة، مقارنة بأدنى المستويات التي شهدتها منذ بداية الأزمة.
هذا التطوّر الغريب وغير المفهوم، يشير ببساطة إلى وجود ارتفاع غامض في الطلب على هذه السندات. أو بالأحرى: هو يشير إلى وجود مضاربات على هذه السندات، أو إلى وجود جهة ما تترقّب تطوّر يدفعها إلى شراء هذه السندات في هذه المرحلة بالذات، بالرغم من تعثّر جميع المعالجات الماليّة المرتبطة بالأزمة اللبنانيّة.
خطورة المضاربات على سندات اليوروبوند
غموض هذا التطوّر وعدم وجود أي معطيات بخصوصه، بل وعدم فهم تداعياته حتّى الآن، يعود لتلكّؤ الدولة اللبنانيّة في بدء المفاوضات الجديّة مع الدائنين، بالإضافة إلى عدم القيام بأي إجراء لمعرفة هويّة الأطراف التي تحمل اليوم سندات اليوروبوند اللبنانيّة. وهذا، وبدل أن يكون لبنان في مرحلة إعادة جدولة هذه الديون بالتفاهم مع الدائنين، يقف اللبنانيون حائرون إزاء سبب التقلّبات السريعة وغير المفهومة في أسعار هذه السندات، ومن دون أن يكون لدى الدولة اللبنانيّة فكرة بخصوص الجهة التي تشتري سنداتها، أي الجهة التي تراهن على تحصيل نسبة أكبر من الديون السياديّة اللبنانيّة في المستقبل.
في واقع الأمر، يحمل هذا الغموض مخاطر عديدة بالنسبة للوضع المالي اللبنانيّة. فوجود هذه المضاربات، وسعي أطراف معيّنة لشراء كميّة كبيرة من السندات، يدلّان على أنّ هناك من يراهن على عوامل مستجدة تسمح بالضغط على لبنان، لفرض شروط أفضل في مسار إعادة هيكلة الدين العام، لمصلحة الدائنين. وهذا ما يطرح السؤال عن العوامل التي يراهن عليها هؤلاء، وعن هويّة هذه الأطراف أساسًا.
هل اقتربت لحظة الخطأ المميت؟
في واقع الأمر، لم يحفل المشهد المالي خلال الأيّام الماضية بأي تطوّر إيجابي، ما يعني أنّ الإقبال على شراء سندات اليوروبوند لم يكن مدفوعًا بأي تفاؤل بإمكانيّة دخول البلاد في مسار التعافي الاقتصادي قريبًا. بل وعلى العكس تمامًا، كان التطوّر الأساسي خلال الأيّام الماضية زيارة بعثة صندوق النقد الدولي، التي كشفت مدى تعثّر الاتفاق الموقّع على مستوى الموظفين، بين لبنان والصندوق. بمعنى آخر، ما يراهن عليه المضاربون هنا ليس أي تطوّر إيجابي بالنسبة للدولة اللبنانيّة، بل يبدو أن الرهان الأساسي هو على مسار “الأخطاء المميتة” التي سترتكبها الدولة اللبنانيّة، بالتوازي مع الإطاحة بالمعالجات العقلانيّة التي كانت مقترحة سابقًا في إطار التفاهم مع صندوق النقد.
“الأخطاء المميتة”، هي ببساطة تزايد الربط ما بين ميزانيّة مصرف لبنان والدولة اللبنانيّة، من خلال الأفكار المطروحة لتحميل الدولة خسائر المصرف المركزي والقطاع المصرفي، كبديل عن مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يطالب به صندوق النقد. مع العلم أنّ هناك شبه توافق سياسي على مبدأ تحميل الدولة خسائر القطاع المصرفي، عبر أفكار تصرّ على جمع أصول الدولة في صندوق استثماري مخصص لإطفاء الخسائر المصرفية.
وهذا الربط، ما بين ميزانيّة مصرف لبنان والدولة اللبنانيّة، هو الخطأ المميت الذي سيسمح للدائنين ببدء الضغط القضائي في محاكم نيويورك، التي تعطيها عقود سندات اليوروبوند صلاحيّة البت بأي نزاع مع الدولة اللبنانيّة. هناك، سيصبح بإمكان الدائنين المطالبة بمد اليد على أصول مصرف لبنان في الخارج، أي سيولته الموجودة في المصارف المراسلة، والذهب الموجود في الولايات المتحدة، وربما طائرات شركة طيران الشرق الأوسط نفسها.
فبحسب اجتهادات محاكم نيويورك، تكتسب موجودات المصارف المركزيّة حصانة اتجاه مطالب الدائنين الأجانب، بالقدر الذي تجد فيه المحكمة أنّ المصرف المركزي يعمل باستقلاليّة ماليّة ونقديّة عن الدولة اللبنانيّة، وبالقدر الذي تجد فيه المحكمة أن هذه الموجودات تتسق مع الدور التقليدي للمصرف المركزي. وبمجرّد ربط ميزانيّة المصرف المركزي وخسائره بموجودات الدولة اللبنانيّة، سيكون بيد الدائنين ورقة قانونيّة، لإثبات عدم استقلاليّة المصرف المركزي الماليّة، وللطعن بالحصانة الممنوحة لموجوداته.
هكذا، تغامر المنظومة السياسيّة في لبنان بتطيير مسار التعافي المالي الطبيعي، لحساب أفكار خطيرة وأخطاء مميتة سيكون من شأنها زيادة خسائر الدولة اللبنانيّة والمصرف المركزي، لمصلحة الدائنين الأجانب. وكل هذه التطوّرات، على خطورتها، لا تصب إلا في سياق تملّص المنظومة من الإصلاحات التي كان يفترض أن يقوم بها لبنان، بحسب تفاهمه مع الصندوق، وفي طليعتها مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي.