يدرس، اليوم، مجلس الوزراء اقتراح وزير الصناعة جورج بوشكيان المتعلّق بفرض إجازة مسبقة لاستيراد علب الكرتون الجاهزة للاستعمال، لحماية المصانع اللبنانية من منافسة المستوردين. فرض هذه الحماية جاء بناءً على شكوى جماعية مقدّمة من ثمانية مصانع ورق وكرتون تحاول الحصول على حماية لمنتجاتها بهدف تخفيف المخاطر التي تدفعها إلى تقليص الإنتاج وصرف العمال وصولاً إلى الإقفال الكامل.عنوان الشكوى المعروضة على مجلس الوزراء يتعلق باستيراد علب الكرتون الجاهزة للاستعمال، لكنّ الواقع أن هناك حلقات مترابطة من مصانع الكرتون تجعل من هذه الشكوى كأنها تُقدّم باسم كل حلقة الإنتاج هذه، إذ يختصّ عدد من المصانع بإنتاج ألواح أو لفائف الكرتون من موادّ أولية أساسية أو من المخلّفات الورقية، وتختصّ أخرى بتحويل الألواح واللفائف إلى صناديق كرتون. ومصانع لفائف الكرتون أو الـ«رولو»، تصنع منتجاتها بواسطة موادّ أولية أساسية، أو بواسطة المخلّفات الورقية التي يعاد تدويرها. وبالتالي فإن الكلفة المترتّبة على مصانع الـ«رولو» تنتقل مباشرة إلى مصانع تحويل الـ«رولو» إلى صناديق وعلب جاهزة للاستعمال. وهذا يعني أنه لا يمكن أن تعيش هذه الصناعة بكل تشكيلاتها إذا كانت تتعرّض لإغراق من منتجات مماثلة يتم استيرادها أو إدخالها مهرّبة عبر الحدود. كل أطراف حلقة الإنتاج هذه متضرّرة من السماح بتصدير المخلّفات الورقية بالتوازي مع ضرّر يلحق بها من استيراد صناديق الكرتون الجاهزة التي تنافسها وتستحوذ على نسبة من حصّتها السوقية لأن الكميات المستوردة تُصنع في بلدان تدعم أكلاف الطاقة للصناعة، ما يشكّل بالنسبة إلى المنتجين اللبنانيين منافسة غير متكافئة.
يظهر الضرر اللاحق بالحصّة السوقية لصناديق الكرتون، من خلال أرقام الجمارك اللبنانية التي تظهر أن الاستيراد الشرعي لصناديق الكرتون الجاهزة للاستعمال ازداد من 469 طناً بقيمة 1.1 مليون دولار في عام 2019 إلى 1382 طناً بقيمة 2.7 مليون دولار في عام 2022. ولغاية آب 2023 استورد لبنان نحو 1062 طناً من صناديق الكرتون الجاهزة للاستعمال بقيمة 1.8 مليون دولار، أي ستصل كمية الواردات من هذه السلعة إلى نحو 1600 طن في نهاية 2023.
بهذه الخلفية، قدّمت ثمانية مصانع شكوى لوزارة الصناعة، وهي: يونيبك مصنع الورق، جميل إخوان، الأوراق الصحية ميموزا، توب باك وان للصناعة والتجارة، معتوق إخوان للكرتون، أوميغا ناشيونال اندستريز، ليبان ساك، قاع الريم للكرتون. وبحسب نصّ الشكوى، فإن مصانع الورق والكرتون اللبنانية تعاني من منافسة أجنبية بسبب الفرق بين كلفة التصنيع المحلية وكلفة حصّة الاستيراد بقيمة 200 دولار على الطن الواحد. كلفة الصناعة المحلية للطن تبلغ 900 دولار مقابل 700 دولار سعر مبيع الطن الواحد من المنتجات المستوردة الجاهزة. وسبب الكلفة الكبيرة للصناعة المحلية، مرتبط بكلفة الطاقة التي تعمل بواسطتها هذه المصانع. فمعامل الصناديق الجاهزة لديها كلفة طاقة تصل إلى 12% من كلفة الإنتاج الإجمالية، بينما لمعامل صناعة الـ«رولو» كلفة أعلى لأنها تُصنّف ضمن مصانع الطاقة المكثّفة، وتراوح بين 35% و50% من سعر المبيع.
ويقول صناعيون ذوو خبرة في هذا المجال، إنه مع ارتفاع تعرفة الطاقة الكهربائية، ومع التقنين الكبير في التغذية بالتيار الكهربائي من مؤسسة كهرباء لبنان، لم يعد يجد الصناعي خياراً سوى اللجوء إلى مولّداته الخاصة التي تزيد الكلفة كثيراً مقارنة مع التعرفة الصناعية القديمة لكهرباء لبنان والتقنين المتدنّي سابقاً.
الخيارات المتاحة أمام صناعة الورق، لا تتعلق بمضمون شكوى مصانع الكرتون الجاهزة التي سيدرسها مجلس الوزراء لحماية الصناعة المحلية عبر فرض إجازة استيراد سيوقّعها وزير الصناعة لكل شحنة يستوردها تاجر الكرتون والورق، بل هي ترتبط أيضاً بموضوع السماح بتصدير المخلّفات الورقية التي كانت خاضعة لإجازة تصدير، ولكنها اليوم تُصدّر بشكل مباشر وعلني إلى تركيا. والمصانع التركية تستفيد من دعم حكومي لكلفة الطاقة المكثّفة، ما يتيح لها إنتاجاً أكثر بكلفة أقلّ، وبالتالي تزداد قدراتها التنافسية في الأسواق الخارجية (لبنان مثلاً). وهذه معضلة قديمة تواجهها الصناعة المحلية بكل أشكالها، ولم تتعامل معها الدولة إلا هامشياً عبر فرض إجراءات بيروقراطية أو قمعية تزيد الاختلال في التوازن بين حاجات السوق المحلية وقدرات الصناعة المحلية ورغبتها في التصدير. ففي إطار ارتفاع كلفة الطاقة تضطر المصانع المحلية إلى تقليص إنتاجها، وبالتالي تخفّف من تركّزها في السوق المحلية وتترك الساحة مستباحة من التجّار والمنافسين الخارجيين. فمن الإجراءات التي اتُّخذت ولم تُنفذ هي الرسوم الجمركية على استيراد الورق، لكن عند استيرادها من أوروبا ومن البلدان العربية التي وقّع لبنان معها اتفاقيات تجارية، يتبيّن أنه لا يمكن تطبيق الرسم الجمركي إلا بموافقة المنظّمات المعنية مثل الاتحاد الأوروبي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي.
ولا تنحصر المشكلة في هذا الأمر، إذ يتواصل دخول السلع المماثلة إلى لبنان عبر معابر غير شرعية بأسعار متدنّية جداً ولو على حساب المواصفات. وهو أمر يغري الكثير من زبائن الصناديق والعلب الكرتونية الجاهزة للاستعمال من أجل تخفيف أكلافها أيضاً.
1616 طناً
مجموع كمية استيراد صناديق الكرتون من سوريا من مطلع 2020 حتى آب 2023 لتحتلّ المرتبة الأولى كمصدّر لواردات هذه السلعة إلى لبنان وتليها الكويت بـ 559 طناً وتركيا بـ 380 طناً
خسارة نصف الإنتاجية
ورد في شكوى أصحاب معامل صناعة الكرتون، أن مصانعهم جاهزة لتلبية حاجات السوق وخصوصاً إذا عملت بطاقتها الإنتاجية الكاملة المفترضة، أي ستة أيام في الأسبوع بدلاً من ثلاثة أيام، مع ما يستتبع هذا الأمر من دوام استمراريتها وخلق فرص عمل كبيرة. وهذه المصانع تركّز بصورة أساسية على الاستيراد من سوريا وتركيا لأن ذلك «يمثّل منافسة جديّة أدّت قسراً إلى انخفاض في طاقة مصانعنا الإنتاجية، وصلت في بعضها إلى حدود النصف وأحياناً إلى أكثر من ذلك».
المصانع تهرب من تنافر ميقاتي – سلام
كان لافتاً أن مصانع الكرتون الثمانية قدّمت شكوى لوزارة الصناعة بدلاً من أن تقدّم شكوى تزايد واردات أو إغراق لوزارة الاقتصاد حتى يتم التحقيق في العملية بشكل علمي ومفصّل بعيداً من الاعتماد على دراسات يقدّمها أصحاب المصلحة. لكن يبدو أن للمصانع اعتبارين للقيام بذلك؛ الأول أنها تدرك وجود تنافر حادّ بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الاقتصاد أمين سلام، ما يعرقل كل المسائل التي يطرحها الوزير على مجلس الوزراء. والثاني أن شكوى تزايد واردات أو إغراق تأخذ وقتاً طويلاً قبل صدور قرار بوضع رسوم حمائية على الاستيراد، ولا شيء يضمن تطبيقها ما دامت مربوطة بصدور موافقات من الاتحاد الأوروبي والمجلس الاقتصادي الاجتماعي العربي لتطبيقها.