بات واضحاً أن إيجارات الشقق والمنازل ارتفعت مع ازدياد حركة النزوح من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت. وانتقلت عدوى الارتفاع إلى المنازل غير المؤجَّرة بعد، إذ تنتظر “الزبون المناسب”. وحالة الترقُّب تدفع نحو التساؤل حول احتمالات تأثير زيادة الإيجارات على أسعار العقارات ككلّ، مما يرفع أسعار البيع ولا يحصرها ببدلات الإيجار. فيكون القطاع العقاري أمام تضخُّم يرفع أسعار الشقق والأراضي في المستقبل القريب.
أسعار الأزمة والحرب
وما يدعم تحوُّل ارتفاع بدلات الإيجار إلى ارتفاع في أسعار العقارات، هو النظر إلى البدلات من زاوية حسابية بوصفها تعويضاً عن انخفاض الإيجارات وأسعار العقارات الذي رافقَ الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن كونها وسيلة لتوفير مداخيل تعوِّض انهيار الرواتب والأجور بالليرة وتدنّي المدولرة منها. فحتى العام 2022 كانت أسعار العقارات قد خسرت بين 40 إلى 50 بالمئة من قيمتها بالدولار، مقارنة مع ما كانت عليه قبل العام 2019. وفي بعض المناطق وصلت الخسارة إلى نحو 70 بالمئة. وحسب تقرير بنك عودة حول القطاع العقاري، الصادر في بداية أيلول 2023 “تقلَّصَ عدد الشراة المحتملين بشكل ملحوظ داخل السوق العقاري، ما نتج عنه ركود في الطلب. ونتيجة الدولرة النقدية للمبيعات، شهد العام 2022 تقلصاً سنوياً في قيمة المبيعات العقارية نسبته 7.7 بالمئة”. وتعود أسباب التراجع إلى “تسعير المبيعات العقارية بشكل كامل بالدولار النقدي وتوقُّف البائعين عن قبول الشيكات المصرفية كوسيلة للدفع”.
وحاوَلَ القطاع الحصول على جرعة تفاؤل في العام 2023 على وقع النشاط السياحي وتوافد المغتربين في فترة الصيف، وترافقَ ذلك مع “سداد المالكين العقاريين ديونهم للمصارف، ولم يعودوا مضطرين لبيع وحداتهم السكنية بشروط بخسة. فتحسّنت أسعار الشقق السكنية تحسّناً خجولاً نسبته 10 بالمئة مقارنة مع العام السابق”. إلاّ أن التحسّن لم يتصاعد، فالحرب اندلعت في تشرين الأول 2023″.
لكن كان يمكن القبول بتبريرات التحوُّل في قيمة العقارات والرواتب، لو أن المسألة ليست مقرونة اليوم بحرب تُحوِّل الجانب الأخلاقي إلى أولوية. فالنازحون الباحثون عن بيوت آمنة، هم بمجملهم عاطلون عن العمل كلياً أو جزئياً، أي ليس لديهم القدرة على دفع إيجارات باهظة. ناهيك بعدم جواز استغلال الظروف الاستثنائية لفرض أكلاف تفوق القيمة الفعلية بنحو 3 أضعاف.
فقّاعة قد تتحوَّل إلى تضخُّم
الخوف من ارتفاع الأسعار في القطاع العقاري وتحوُّله إلى تضخُّم، يحتِّم الوقوف على مفهوم التضخُّم. فيقول الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة إنّ “التضخُّم هو ارتفاع الأسعار لفترة زمنية طويلة ومستمرة. أي أن السمة الأساسية للتضخُّم هي ربطها بالزمن. وحتى اللحظة، ما نشهده من ارتفاع للإيجارات لم يحصل لفترة زمنية طويلة. أما إذا استمرّت الحرب لنحو سنة فيمكننا البدء بالحديث عن تضخُّم في الأسعار“. ويلفت عجاقة النظر إلى أن إطلاق صفة التضخُّم على الأسعار يستوجب “بقاء الأسعار مرتفعة بعد انتهاء الحرب. وإذا عادت إلى ما كانت عليه قبل الحرب، فيتم وضع الارتفاع في خانة الفساد واستغلال الأزمة وليس التضخُّم”.
ويلتقي عجاقة في نظرته للقطاع العقاري في ظل الحرب، مع ما يؤكّده المطوِّر العقاري ورئيس مجلس إدارة شركة بلاس بروبرتيز Plus Properties جورج شهوان، الذي يقول لـ”المدن”، إنّ أسعار العقارات “ما زالت على حالها، وما تغيَّر هو بدلات الإيجار، وهي لم تتحوَّل بعد إلى ارتفاع في أسعار العقارات وإلى تضخُّم في القطاع. بل ما يجري هو عملية مرحلية تحصل لفترة زمنية ليست طويلة الأمد ويفترض أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه”. ويستبعد شهوان الوصول إلى مرحلة التضخُّم لأن “مَن يترك الجنوب لا يطلب شراء العقار وإنما استئجاره لفترة مؤقّتة. وفي حال تطوّرت الحرب واستدعت وجود طلبات لشراء العقارات، فحينها يمكن الحديث عن تضخُّم ربطاً بارتفاع الأسعار”. وعلى ضوء ما يحصل، يؤيّد شهوان “تدخُّل الدولة عبر البلديات لمنع انفلات ارتفاع بدلات الإيجار وتحوُّله إلى ارتفاع لأسعار العقارات، لأن المسألة اليوم لا تتمّ وفق آلية العرض والطلب”.
والنفيّ المرحلي لصفة التضخُّم، يُبقي الباب مفتوحاً أمام صفة “الفقّاعة”، ولذلك، يمكن اعتبار ارتفاع بدلات الإيجارات بأنه “فقاعة عقارية” انطلاقاً من المُبالَغة في زيادة أسعار العقارات لاستغلال الأزمة وتحصيل الأموال، أو لعدم الرغبة في تأجير نازحين من بيئة وطائفة معيّنة، وهو أمر لا ينسحب على أسعار العقارات الذي يُعرَض على مختلف الزبائن ويكون شبه موحَّد ضمن المنطقة الجغرافية الواحدة.
إمكانية خفض بدلات الإيجار
الركون إلى استبعاد التضخُّم حالياً، لا يلغي ضرورة لجم الارتفاع الكبير لبدلات الإيجار، تلبية للحقّ الإنساني بالسكن والحق بالحماية من الاستغلال، خصوصاً وأن البدلات المفروضة لا تُعَبِّر عن القيمة التأجيرية الحقيقية للمنازل.
وأمام مطالبة المواطنين بتدخُّل الدولة لمنع الاستغلال، تؤكّد مصادر في وزارة الاقتصاد “عدم اختصاص الوزارة في هذه الحالات، وإن من باب حماية المستهلك، لأن الشقق المؤجَّرة ليست مؤسسات تجارية، وبحسب القانون لا يمكن الدخول إلى المنزل من دون قرار قضائي. وصاحب المنزل ليس تاجراً مسَجَّلاً. ولذلك، أسرع حلّ يمكن أن يكون عبر تدخُّل البلديات كسلطة محلية”.
وكان لافتاً للنظر إصدار محافظ مدينة بيروت القاضي مروان عبود بلاغاً إلى مالكي الشقق السكنية في مدينة بيروت يدعو فيه إلى “مراعاة الظروف وعدم الاستغلال ورفع قيمة الإيجار ووضع الشروط كما تقتضيه الأخوَّة والمواطنة”. أما في حال استغلال بعض مالكي الشقق السكنية ظروف النازحين وتأجيرها بقيمة أعلى من قيمتها التأجيرية الفعلية، “ستعتمد بلدية بيروت هذه القيمة كمعيار للقيمة التأجيرية للشقة المؤجرة في حال إشغال العقار من قبل المالك سنداً لأحكام قانون الرسوم والعلاوات البلدية”. أي أن مالك الشقة سيدفع رسم القيمة التأجيرية للبلدية بناءً على بدل الإيجار المفروض على المستأجِر.
ولتأكيد سلطة البلديات في هذا المجال، تنصّ المادة 5 من القانون رقم 60 تاريخ 12-8-1988 المتعلّق بالرسوم والعلاوات البلدية، على أنه “يدخل في مفهوم القيمة التأجيرية كل ما يتقاضاه أو يحصل عليه المؤجِّر من المستأجر نقداً أو على شكل منفعة. وتشمل بدلات الإيجار الأساسية… وبدلات الخدمات التي يقدِّمها المؤجِّر للمستأجر كالتدفئة والتبريد والماء الساخن وتسيير المصاعد الكهربائية وسواها…”.
وعليه، فإن البلديات يمكنها لعب دور أساسي في إعادة الأمور إلى نصابها في ما يخصّ بدلات الإيجار والمساهمة في عدم تحويل الارتفاع إلى تضخُّم في الأسعار فيما لو طالَ أمد الحرب وفَرَضَت في حينها معطيات جديدة تستدعي الاستئجار لفترات أطول أو شراء العقارات.