لن تكون المرحلة المقبلة شبيهة بما مرّ حتى الآن على مستوى العلاقة بين الثلاثي «المتهم» بالأزمة المالية الاقتصادية التي ضربت البلد. وما سنشهده بين السلطة السياسية ومصرف لبنان والمصارف التجارية، لن يكون مجرد تعاون للخروج من المأزق، بل قد يتحوّل الى مواجهات «دامية»، لأنّ الأزمة أصبحت قضية وجود.
شكّل البيان المُسهب الذي أصدرته جمعية المصارف اللبنانية نقطة تحوّل في العلاقة بين القطاع والدولة. ولن يكون هذا البيان سوى البداية، إذ قد تليه مرحلة قاسية من المواجهة المباشرة مع السلطة السياسية مُمثّلة بحكومة حسّان دياب.
ولا بدّ من الاعتراف بأنّ المصارف خسرت حتى الآن، وفي منظور الرأي العام، كل المواجهات التي خاضتها لإبعاد الاتهامات عنها في موضوع احتجاز وتبديد الاموال. لكن في المواجهة الأخيرة، وعلى طريقة «رمية من دون رامٍ»، خرجت المصارف رابحة، وبدّلت ولو بنسبة ضئيلة، في حجم المسؤولية التي يُحمّلها لها الناس في مسألة ضياع أموالهم. واستفادت المصارف من الثغرة التي فتحتها الحكومة في خطتها الإنقاذية، والمتعلقة بالـHaircut، لتصطف الى جانب حقوق المودعين. وهكذا بدا المشهد وكأنّ الحكومة هي الجهة التي تسعى الى مصادرة اموال الناس، والمصارف، ومعها مصرف لبنان يرفضون هذا النهج، ويصرّون على المحافظة على ودائع الناس بالكامل. ولم تتوقف المواجهة عند هذا الحد، بل انتقلت الى الجبهة السياسية، حيث اضطرت جهات سياسية موالية ومعارضة الى اتخاذ موقف واحد معارض لنهج الاقتطاع من الودائع. وصار المشهد العام يوحي بأنّ الحكومة في جبهة، ومصرف لبنان والمصارف والقوى السياسية والناس في جبهة أخرى.
اذا أضفنا الى هذا العامل، عنصراً آخر يتعلّق بالقلق الذي أثارته بعض النقاط المحدّدة في الخطة، من احتمال تغيير خارطة توزيع ملكية القطاع المصرفي، أو من احتمال ضرب القطاع من دون ايجاد البديل، بحيث يصبح ملء الفراغ ممكناً من قِبل جهات تتربّص للانقضاض على هذا القطاع، وفرض واقع مالي جديد، يمكن القول عندها، إنّ المصارف التي كانت تشعر بأنّها مُستفردة شعبياً وسياسياً (في العلن على الأقل)، برغم بعض التداخل، بين العائلات السياسية ومصالحها وبين أصحاب المصارف، أصبحت اليوم في وضع أفضل، وتحظى بدعم سياسي وأحياناً روحي، علني لضمان وجودها.
انطلاقاً من هذه النقطة، ما هي معالم المرحلة المقبلة، وما هي الحقائق والخيارات المتاحة أمام المصارف؟
في المؤشرات والمعلومات، انّ النهج الذي ستتبعه المصارف سيكون مغايراً للنهج السابق، وستكون هناك خيارات عدّة من ابرزها ما يلي:
اولاً – التخلّي عن سياسة الدفاع عن النفس، واتباع نهج المواجهة العلنية مع الدولة، من خلال التركيز الإعلامي على المسؤولية الاولى التي تتحمّلها الدولة، في الوصول الى حال الافلاس التي وصل اليها البلد.
ثانياً – استخدام نقاط القوة التي تملكها المصارف، ومن أهمها التركيز على رفض المسّ بودائع الناس.
ثالثاً- تحاشي فتح جبهة مواجهة مع مصرف لبنان، والتعاطي مع الموضوع من زاوية انّ المصارف التجارية ومصرف لبنان في جبهة واحدة، لأنّهما ضحية السلطة التي بذّرت الاموال.
رابعاً- إقامة دعوى قضائية في وجه الدولة اللبنانية في الداخل أو في الخارج، وفق الاسلوب نفسه الذي قد يتبعه المستثمرون الأجانب من حَمَلة «اليوروبوند» للمطالبة باسترداد اموالهم. هذا الموضوع، ولو أنّه غير محسوم، لكنه طُرح، وكلما زاد الضغط على القطاع، كلما أصبح احتمال اعتماده مُرجّحاً.
في الموازاة، سيتبّع حاكم مصرف لبنان نهجاً مختلفاً عن النهج السابق في طريقة التعاطي مع المستجدات، وقد يتخلّى عن اسلوب ردّة الفعل المتحفظة (Passive) لينتقل الى الفعل (Active). والمقصود هنا، انّ سلامة، الذي اعتاد شراء الوقت للسلطة بانتظار ان تحسم أمرها للبدء في المعالجة، لن ينتظر هذه المرة، وسيبدأ في أخذ مبادرات تتيحها له القوانين المرعية الإجراء. وفي الخيارات والاحتمالات المتاحة امام حاكم المركزي التالي:
اولاً- التعاطي المباشر في حلحلة وسدّ بعض الثغرات، كما هي الحال مثلاً في موضوع إنشاء وحدة للتجارة بالعملات في مصرف لبنان، هدفها التفاعل مع السوق المالية الموازية للجم سعر صرف الدولار بالحدود الممكنة على المدى القصير.
ثانياً- اعتماد نهج مختلف في التعاطي مع الرأي العام، بحيث قد يعمد الى تكثيف الإطلالات الاعلامية، لإتاحة الفرصة لمصارحة الناس بالوقائع سواء المتعلقة بتوصيف اسباب الوصول الى هذه المصيبة، أو لجهة كيفية تجاوز مفاعيل الأزمة. وبالتالي، لن يصمت سلامة بعد اليوم، وسيصارح الناس في حال اضطر الى مجاراة السلطة السياسية، لأنّ فلاناً من السياسيين النافذين ضرب على الطاولة وقال له لن ندفع (استحقاق اليوروبوند في آذار)، أو لأنّ فلاناً قال له بلغة الجزم، إدفع من اموال المركزي لتمويل هذا المشروع العام أو ذاك.
ثالثاً- المباشرة في إعادة هيكلة ذاتية للقطاع المصرفي، من خلال تشجيع الدمج بين مصارف لا تزال تملك امكانات مقبولة، وحجم انكشافها على الدين العام مقبول أيضاً، وبين مصارف مكشوفة تماماً وغير قادرة على تلبية مندرجات تعميم رفع الرساميل الخاصة بنسبة 20%. وقد انقضت مهلة الـ10 في المئة الاولى، ويستحق في حزيران موعد زيادة الـ10 في المئة الثانية. وسيضطر مصرف لبنان الى دفع بعض الاموال التحفيزية لتشجيع وإنجاز الدمج، أو وضع اليد على مصارف متعثرة لإعادة تشغيلها بإدارة جديدة.
رابعاً- إصدار مجموعة تعميمات تتعلق كلها بمعالجات آنية لأزمات برزت على ضفاف الأزمة المالية التي ضربت البلد.
في الواقع، ينبغي أن يتحضّر اللبنانيون، وبصرف النظر عن المواجهات الداخلية، سواء حصلت أم لا، لمرحلة صعبة موجعة. وينبغي ان يكون مفهوماً، انّ الوجع الأكبر لن يكون ناتجاً من اجراءات قد تتخذها الحكومة لتنفيذ خطط انقاذية، (مثل الرسوم والضرائب والحسومات وتخفيض التقديمات) بل عن الواقع الذي لا يمكن تغييره، والذي يشير حتى الآن، الى أنّ حجم الاقتصاد سيتراجع الى النصف، نسبة البطالة سترتفع بشكل مرعب، منسوب الفقر سيشمل شريحة واسعة جداً من الناس، القدرة الشرائية للمواطن ستتراجع بنسب يصعب تقديرها لكنها قد لا تقل عن 200%، وستكون السنوات الثلاث المقبلة على الأقل، سنوات عوَز وحرمان.