تكفي الاستعانة بمحرك غوغل العالمي بحثاً عن كلمتي #فساد و#لبنان، لينفلش على شاشة الكمبيوتر آلاف المقالات والأخبار والتصريحات والبيانات التي أتت على ذكر هذين التعبيرين. وإذا ما قرّرت التعمّق في الشق القانوني من المسألة، لوجدت بحراً من الاقتراحات والقوانين والاستراتيجيات الهادفة إلى مكافحة الفساد.
يمكن المؤسسات اللبنانية، الرسمية والأهلية والمدنية، أن تكون بمثابة جامعات متخصصة في تلقين أطر محاربة «سرطان الهدر والرشوة» وآلياتها، حتى عامة الناس صارت خبيرة في قواعد ضبط المال العام وزواريبه وفي إمكانها الإفتاء في قوانين المساءلة والمحاسبة… كيف لا والأرجح أنّ لبنان هو الدولة الوحيدة الذي أحدثت حكومته وزارة دولة لمكافحة الفساد، لم يُتح لشاغلها سوى التفرّج على «صفقات المليارات» تتبختر أمامه فيما روائح الفساد تسدّ أنوف الجميع، حكّاماً ومحكومين. أما هو فلا حول ولا قوة له سوى تسطير البيانات، كأستاذ في «صف مشاغبين».
يشغل الفساد بال اللبنانيين بعدما بلغت المالية خطوطاً حمراء تستدعي اعلان حال طوارئ عامة حيث لم يعد مسموحاً السكوت عن جريمة نهب المال العام. اذ يقدر الخبراء أنّ الكلفة السنوية للفساد في لبنان بنحو 10 مليارات دولار أو ما يعادل 20% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، تتوزع بين خسائر مباشرة على خزينة الدولة، ناتجة من الفساد في التخمين العقاري والجمارك والوزارات والمؤسسات التي تقدم خدمات عامة والأملاك البحرية والنهرية والمخالفات والضرائب والرسوم وغيرها، وبين خسائر غير مباشرة.
يحفل أرشيف لبنان الرسمي برزمة من الاجراءات التي اتّخذتها المجالس النيابية والحكومات المتعاقبة في محاولة لتطهير الادارة وتنظيفها. ولكن «فالج لا تعالج» لأنّ العلّة في النفوس لا النصوص طالما أنّ الطبقة السياسية لم تحاكم نفسها لتقتصّ من الرؤوس الكبيرة واكتفت بتدفيع الفاسدين الصغار الثمن.
ومع ذلك، حوّل مجلس الوزراء أمس اقتراح وزيرة شؤون التنمية الادارية مي شدياق لمشروع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد إلى لجنة وزارية لدرسه، في وقت تُزايد القوى السياسية بعضها على بعض لتصدر واجهة حملة «الأيادي البيضاء».
إذ يفاخر مجلس النواب الحالي أنّه في صدد الانتهاء من المنظومة التشريعية لمكافحة الفساد في القطاع العام بما فيها قانون مكافحة الفساد في القطاع العام، (كانون الأول 2018)، ولكي تناط بالهيئة الوطنية الصلاحيات كافة والمهمات لتحريك الضابطة العدلية والقضاء والتحقيقات والإجراءات الإحترازية، من رفع السرّية المصرفية والحصانات عن الجميع من رؤساء ووزراء ونواب وضباط وإداريين.
الهيئة الوطنية
إذاً، ثمّة هيئة وطنية لمكافحة الفساد، من شأنها أن «تساهم في تدارك الفساد وكشفه وتعزيز النزاهة والشفافية في القطاع العام، والمساعدة في توطيد مبادئ سيادة القانون والمساهمة في تحضير مشاريع القوانين والأنظمة التي ترمي الى تدارك الفساد وكشفه ومكافحته.”
وحين أقرّت لجنة الادارة والعدل تشكيل الهيئة الوطنية (أيار 2017)، أوضحت أنها تضمّ «قضاة ومحامين وخبراء محاسبة وخبيراً في شؤون الادارة والمال، وجميع القضاة الذين يترأسون هذه الهيئة، هم: مثلاً قاض في منصب شرف ينتخبه الجسم القضائي أي أنّ هذا الجسم ينتخب عضوين حتى يكون أحدهم رئيساً للهيئة المشرفة، وهذه الهيئة تتمتع بالاستقلال المالي والاداري واعطيت لها الحصانات اللازمة حتى تكون متجردة وفاعلة في قراراتها واستقصاءاتها. انّ صلاحياتها واسعة وتتلقى كل الكشوفات والاخبار والشكاوى وتحتفظ بسرّيتها وهي تحيلها الى الهيئات الرقابية المختصة من المجلس التأديبي الى الهيئات القضائية وتلاحقها، ولها أيضاً أن ترصد وضع الفساد في الادارات العامة وأن تبرّر كلفته وأن تعمل على مكافحته بأيّ شكل من الأشكال، وهي أيضاً تبدي الرأي في التشريعات والأنظمة المتعلقة بالفساد، بناءً للطلب، وتتلقى التصاريح المالية التي يرفعها الموظفون إلى المجلس الدستوري وتحفظها، وتدقق بها وفقاً لقانون الإثراء غير المشروع وتسلم الشكاوى المتعلقة بقانون حق الوصول الى المعلومات”.
الاستراتيجية الوطنية
في الموازة، سبق لوزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية السابقة عناية عزّ الدين أن أطلقت «مسودة» مشروع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد والخطة التنفيذية (نيسان 2018) وذلك تطبيقاً لما التزم به لبنان عند توقيعه الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد. تهدف الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد الى إرساء الشفافية المُتمثلة بحق الوصول الى المعلومات، خصوصاً المتعلقة منها بالصفقات العامة والقرارات الإدارية والقضائية والتعاميم ونشر الأحكام والتقارير الدورية والسنوية الصادرة عن القضاء، أو تلك الصادرة عن أجهزة الرقابة، والإعلان عن نتائج التحقيقات النهائية المُحالة أمام المحاكم، وكذلك الإعلان عن الأحكام القانونية ذات الصلة. كذلك تهدف إلى تفعيل المُساءلة، وصولاً الى معاقبة مرتكبي الفساد وشركائهم من دون أيّ عائق دستوري أو إداري أو قضائي أو أيّ حسابات سياسية.
ملاحظات الوزراء
أما في جلسة أول من أمس، فقد تبيّن وفق الملاحظات التي سجّلها أكثر من وزير، أنّ الاستراتيجية كما قدمتها شدياق تحتاج الى تحديث، وكأنها لا تزال النسخة ذاتها التي عملت عليها عز الدين، ولذا تمت إحالتُها الى لجنة وزارية للعمل على تنقيحها، كونها تنصّ مثلاً على العمل على تحسين رواتب الموظفين، كذلك تتضمن الصفحة 11 بنداً سياسياً لا يحمل أيَّ ارتباط عضوي بمنظومة الفساد. كما أنّ المخطط التنفيذي الملحق بها لا يزال بلا خريطة طريق.
في المقابل، تقول شدياق إنها لا تمانع من خضوع المشروع للتنقيح اللغوي والتحديث لكنها ترفض المَسّ في جوهره أو تعريضه للمماطلة، خصوصاً أنّ الهيئات الدولية تراهن على هذه المشاريع لاستعادة الثقة بلبنان كونها تشكل خريطة طريق لكثير من القوانين والاجراءات الحكومية والوزارية على طريق مكافحة الفساد. وأشارت إلى أنّ أبرز التعليقات التي سجلت في الجلسة، تناولت خصوصاً «نبرة» الاستراتيجية القاسية والتي تطاول السياسيين عموما في كونهم متّهمين بالفساد.
ومع ذلك، يكمن مفتاح مكافحة الفساد في قرار «كبار القوم» لا «صغار موظفيهم»، خصوصاً أنّ أدوات الملاحقة القانونية متاحة. فحتى لجنة المال والموازنة سلّمت جدلاً في «شرط التزام السلطة التنفيذية بالتطبيق والّا محاسبتها»، لكي تكون هذه القوانين ذات فاعلية، وإلّا بقيت حبراً على ورق. فقانون «الإثراء غير المشروع» الذي يعتبر العمود الفقري لمنظومة مكافحة الفساد، والذي يفرض على كل متولّي سلطة عامة تقديم تصريح ذمة مالية عن أمواله وممتلكاته، لم يحقق الفارق. اذ تحتوي خزنة مصرف لبنان المركزي على أكثر من 64000 مُغلف مُغلق عبارة عن تصاريح ذمم مالية قُدّمت منذ تاريخ إقرار قانون الإثراء غير المشروع عام 1954 بلا فتح أيّ مُغلّف!
للإشارة ختاماً، يُعرّف الفساد رسمياً على أنه «سوء استعمال المناصب العامة والخاصة من أجل تحقيق منافع شخصية من خلال قبول الموظف في القطاع العام أو المستخدم في القطاع الخاص رشوة أو يطلبها، أو يسيء استعمال وظيفته أو عمله من أجل جني أرباح، وذلك باستغلال نفوذه أو باختلاس ما أوكل اليه أمرُ إدارته او الإشرافُ عليه». أو هو في اختصار شديد، أن تكون «لبنانياً”.