مكافحة التهريب تُثمر: الإيرادات الجمركيّة ترتفع بنسبة 105%

كما بات معروفاً للجميع، فُرض على لبنان اتخاذ إجراءات أمنيّة مشدّدة، على جميع المنافذ البريّة و الجويّة والبحريّة، منذ توقيع اتّفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني من العام الماضي. وبطبيعة الحال، كان الغرض الأساسي من تلك الإجراءات القسريّة قطع وسائل تهريب السلاح، أو السلع التي يمكن استخدامها لإنتاجه، والتي يمكن أن تعيد بناء قدرات حزب الله العسكريّة. ولولا الضغط الدولي في زمن الحكومة السابقة، ومخاطر استمرار الحرب بصيغتها الموسّعة، لما كان بالإمكان فرض تلك الإجراءات، التي تتجاوز بتداعياتها خطوط إمداد حزب الله، لتطال شبكات تهريب تجاريّة نافذة ومؤثّرة في القرار السياسي.

لهذا السبب بالتحديد، لم تكن مصادفة أن يسمع اللبنانيون خلال العام الحالي عن سقوط العديد من عصابات التهريب الكبيرة، التي تنوّعت أعمالها ما بين تهريب الذهب من تركيا والإتجار بأدوية الأمراض المستعصية المزوّرة، مع الإشارة إلى أنّ إجراءات ضبط التهريب شملت خلال الأشهر الماضية تغييرات في الطواقم العاملة على مراقبة المنافذ الحدوديّة، فضلاً عن تطوير أدوات المراقبة، مع الاستعانة بخبرات أمنيّة أجنبيّة، وتحديداً في مطار بيروت الدولي.

النتائج الماليّة الإيجابيّة

يمكن العثور على النتائج الماليّة الإيجابيّة لهذه التطورات في أرقام الإيرادات الجمركيّة اللبنانيّة. فخلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، ارتفع حجم الإيرادات الجمركيّة إلى مستوى يناهز الـ 70.43 ترليون ليرة لبنانيّة، مقارنة بنحو 34.28 ترليون ليرة لبنانيّة فقط خلال الفترة المماثلة من العام الماضي. وبذلك، تكون إيرادات الدولة الجمركيّة قد سجّلت ارتفاعاً يتجاوز الضعف، وبنسبة ضخمة تقارب الـ 105%. هذه الأرقام تعكس حجم الإيردات التي كانت تخسرها الدولة اللبنانيّة سنويًا، بفعل ظاهرة التهريب والتهرّب الضريبي.

ومن الجدير ذكره أنّ حجم الإيرادات الجمركيّة لم يكن يتجاوز الـ 1.4 ترليون ليرة لبنانيّة خلال العام 2022، و22.33 ترليون ليرة لبنانيّة في العام 2023. غير أنّ انخفاض الإيرادات في تلك السنوات ارتبط بأسباب إضافيّة، مثل انخفاض سعر الصرف المعتمد لتحصيل الرسوم الجمركيّة، وهو ما صُحّح على نحوٍ تدريجي لاحقاً. أمّا التحوّل الإيجابي في الأرقام بين العامين 2024 و2025، فلا يربَط بمسألة سعر الصرف، بعد أن جرت معالجته أصلاً؛ بل يرتبط على نحوٍ أساسي بمسألة مكافحة التهريب.

ومن المهم الإشارة أيضاً إلى أنّ لبنان شهد خلال العام الحالي تحسّنًا في حركة التجارة الدوليّة، حيث ارتفعت حركة الشحن عبر مطار بيروت مثلاً إلى 5.33 مليون طن خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة، قياساً بـ 4.59 مليون طن خلال الفترة المماثلة من العام السابق. غير أنّ هذه الزيادة على أهميّتها، والتي تقارب نسبتها الـ 15.98%، لا تفسّر بحد ذاتها حجم الارتفاع الأكبر في حاصلات الرسوم الجمركيّة هذه السنة، وهذا ما يعيد التأكيد على ربط هذا التحوّل الإيجابي بإجراءات ضبط المنافذ الحدوديّة ومكافحة التهريب.

ومن المعلوم أنّ وزارة الماليّة كانت قد أعلنت على نحوٍ متدرّج عن مجموعة من المبادرات لتشديد المراقبة ومكافحة التهريب، ومنها على سبيل المثال استقبال أجهزة “سكانر” حديثة هذا الشهر، لزيادة عمليّة المراقبة وتسريعها وتخليص السلع. وتسعى الوزارة حالياً للاستفادة من ربط المعلومات، ما بين أنشطة الامتثال الضريبي في الوزارة، والجمارك اللبنانيّة، مع الاستعانة بأنظمة تقنيّة لتقييم مخاطر كل عمليّة شحن على نحوٍ أوتوماتيكي، بعد مراقبة النظام المعلوماتي لهويّة المستورد المحلّي والشّاحن الأجنبي وطبيعة البضائع المصرّح عنها. وبهذا الشكل، لا يقتصر هدف هذه الإجراءات على مراقبة العمليّات فقط، أو تسريعها؛ بل يشمل إنشاء نظام رقمي مؤسّسي متكامل لتحقيق الهدفين معاً في الوقت نفسه.

اعتبارات العلاقة مع الدول العربيّة

تكتسب هذه التطوّرات أهميّة استثنائيّة على مستوى آخر. ففي الوقت الراهن، تسعى الحكومة اللبنانيّة إلى فك الحظر السعودي المفروض على السلع المُصدّرة من لبنان منذ العام 2021، والمُرتبط بهواجس الرياض من استعمال لبنان كساحة لإعادة تصدير المخدرات. ولهذا السبب، من البديهي أن تساهم إجراءات ضبط المنافذ الحدوديّة في طمأنة الخارج إزاء جديّة السلطات اللبنانيّة في مكافحة عمليّات التهريب، التي تشمل أيضاً الممنوعات.

وفي هذا السياق مثلاً، جاء إعلان وزارة الداخليّة اللبنانيّة يوم أمس الثلاثاء، عن إحباط محاولة تهريب كميّة من المخدرات إلى لبنان، بالتعاون مع الرياض. وكان لافتاً تركيز البيان على التزام لبنان الثابت “التصدي لكل محاولات التهريب، ورفض استخدام أراضيه كنقطة عبور أو منصة للإضرار بمصالحه وعلاقاته مع الدول الشقيقة”، في إشارة إلى أهميّة هذه العمليّات من جهة منع استقبال المُخدّرات المُعدّة لإعادة التصدير باتجاه دول الخليج العربيّة.

في الخلاصة، من الواضح أنّ وزارة الماليّة استفادت على نحوٍ كبير من الإجراءات الأمنيّة والتقنيّة المُستجدة هذه السنة على المعابر الحدوديّة. غير أنّ هذه المستجدات تعيد التذكير بحجم الإيردات الضخم الذي يفوّته التهرّب الضريبي سنويًا على الميزانيّة العامّة للدولة. وهذا ما يفرض الانتباه إلى سائر الخطوات المطلوبة لمكافحة ظاهرة التهرّب من ضرائب الدخل والأرباح، التي شهدت تنامياً خلال السنوات الماضية، بالاستفادة من اتّساع نطاق الاقتصاد النقدي.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالهيمنة على المعادن النادرة تمنح الصين نفوذا حاسما في الحرب التجارية
المقالة القادمةكهرباء من قبرص… إنقاذ للبنان أم فخ مالي جديد؟