مكافحة المرتكبين في القضاء: إذا فَسُد ملح الأرض

 

 

في صدارة ما يوصف بحملة مكافحة الفساد، كشف ارتكابات ومخالفات ارتكبها قضاة. المعروفون منهم قيد المساءلة، والمخفيون لا احد يعرف عددهم ومتى موعدهم وتوقيت رفع الغطاء عنهم. محاولة لتنظيف سلك يصح فيه قول القديس متى انه «ملح الارض». اذا فسد بماذا يُملّح؟

ليس وزير العدل ألبرت سرحان اول قاضٍ في هذه الحقيبة. قبله ثلاثة قضاة كبار شغلوها: اميل تيان (1965 – 1966)، يوسف جبران (1979 – 1980)، جوزف شاوول (1998 – 2000). الاول في حكومة ترأسها الرئيس رشيد كرامي في عهد الرئيس شارل حلو، والاثنان الآخران – للمفارقة – في حكومتين ترأسهما الرئيس سليم الحص. اولى في عهد الرئيس الياس سركيس وثانية في عهد الرئيس اميل لحود. في المقابل، في اكثر من نصف قرن من الزمن، لم يشهد القضاء محاولة اصلاح من الداخل، خلت من التسييس، سوى مرتين فقط: اولى عام 1965 استكملت وأفضت الى نتائجها المتوخاة، وثانية عام 1999 حيل دونها رغم تخطيها عقبات اولى. في هذه الايام يشهد القضاء محاولة ثالثة بسبب ما شاع اخيراً، كما في تجربة 1965، عن مخالفات وارتكابات لقضاة تركت اكثر من تأثير في احقاق العدالة المنوطة بهم، الذين غالباً ما قيل انهم “اصبع الله”.

كُشف في الاسابيع الاخيرة عن توقيف مساعدين قضائيين، ثم عن توقيف قضاة عن العمل وآخرين متهمين. يشهد القضاء نفسه من حين الى آخر سجالات وتنافساً بين القضاة على ممارسة الصلاحيات. ما يجري ايضاً في سبيل مكافحة فساد – وليس الفساد تفادياً للتعميم – معاقبة قضاة من دون حل المشكلة الاساس وهي تدخّل المرجعيات والسياسيين والنافذين. في الحقبة الشهابية خَبُر لبنان عسكرة السياسة، وفي حقبة ما بعدها تسييس الجيش. منذ اتفاق الطائف انتقلت العدوى الى القضاء الحائر بين تسييسه واستقلاله. لكل مرجع ونافذ حصة في التشكيلات القضائية وتوزّع مناصبها – وهو شرط اقرارها شأن التعيينات الامنية والعسكرية والادارية – ما شكّل غطاء ضامناً للحؤول دون الوصول الى الارتكابات والمخالفات.

فيما يجري في هذا الوقت، ويقوده الوزير الحالي، محاسبة قضاة تحت شبهة ارتكاب، يتردد ان الغطاء رُفع عنهم، او أُرغمت مرجعياتهم على الكف عن حمايتهم. وذلك ما يصح ابصاره في ادارات اخرى كذلك.

مع ذلك، فإن درسي 1965 و1999 لم يؤخذ بهما تماماً في التجربة الثالثة، ما يجعل امتحان سرحان ناقصاً، وقد لا يفضي تماماً الى ما يتوخاه.

التقت تجربتا مكافحة فساد في القضاء عامي 1965 و1999 على هدف واحد، كمن فيه سرّ نجاح المهمة. تمكنت الاولى من الوصول اليه، واخفقت الثانية تحت وطأة التدخلات السياسية، هو الرفع الشامل للحصانة عن القضاة جميعاً، بلا استثناء، تمهيداً للخوض في ملفات المرتكبين منهم. لم تُعالج حينذاك المشكلة بالقطعة، شأن ما يجري اليوم.

كان الرئيس شارل حلو يُطلق على ما احدثه في عهده، عن مكافحة الفساد، صفة «إصلاح»، فيما نعته كثيرون بأنه اقرب الى «تطهير»، وشاعت العبارة ولا تزال. شمل وقتذاك 12 قاضياً صُرفوا من الخدمة من مجموع ما يقرب من 200 قاض كان يتألف منهم هذا السلك. اعتمدت السابقة – في ظل وزير العدل اميل تيان – على قوانين اقرّها مجلس النواب في تشرين الاول 1965، قضت برفع شامل للحصانة عن القضاة والموظفين، واستمرت هذه القوانين نافذة حتى منتصف الثمانينات حينما أُلغيت، لكن من غير ان يصير الى تطبيقها ثانية بعد عام 1965. في بعض المرات هدد يوسف جبران، في معرض تحذيره القضاة، بالعودة الى تطبيقها.

الخطوة التالية لرفع الحصانة عن القضاة والموظفين، تأليف هيئتين قضائية وادارية، تولتا تنظيف القضاء والادارة من المرتكبين من خلال اجراءين احدهما استقالة طوعية للقاضي او الموظف، او فرض احالته على التقاعد. في كانون الاول 1965 انهيت خدمات القضاة الـ12، من غير ان يستقيلوا، بينهم رئيس مجلس شورى الدولة ورئيس ديوان المحاسبة الى عشرة قضاة من رتب عالية.

بهذا الاجراء أنشأت الهيئة القضائية التي نيط بها بت ملفات القضاة المرتكبين سابقة لم تتكرر، لكنها مثّلت افضل ضمان لتفادي تسييس الملفات وأصحابها. حُصر بها الاختصاص، فبقي الوزير والسلطات السياسية في منأى عنها تماماً. بدا رفع الحصانة والهيئة القضائية المستقلة شرطا نجاح المهمة.

في تجربة 1999 بدأت المحاولة عندما حضر رئيس هيئة التفتيش القضائي وليد غمرة الى وزير العدل جوزف شاوول، يخطره بأن بين يديه ملفات لـ40 قاضياً مرتكباً. ملفات موثقة متماسكة، شبّهها غمرة بأنها «باطون مسلح» من وفرة صدقيتها وصحتها ودقتها. على الاثر تقدّم شاوول بمشروع قانون برفع شامل للحصانة عن القضاة جميعاً، حاصراً مدة رفع الحصانة بأسبوع واحد فقط، كاف لمراجعة الملفات الـ40 وأصحابها، مع منح هؤلاء حق المراجعة والطعن الذي منعها عنهم اصلاح 1965. اقره مجلس الوزراء، الا انه لم يصل الى الهيئة العمومية لمجلس النواب وطُوي. تبعاً لذلك طُمرت ملفات القضاة الـ40، واستمروا في وظائفهم، وحيل دون ملاحقتهم على ارتكاباتهم جراء تدخّل سياسي لم يكن مخفياً في عهد لحود، وهو بالكاد في سنته الاولى. ذهب لحود من ثم الى طراز آخر من «الاصلاح»، اخفق سريعاً وانهار، حينما عزم على محاسبة السياسيين خصومهم وملاحقتهم، ما انتقل بإصلاحه من هدف الى سواه هو تصفية حسابات سياسية.

قد يكون ما تحتاج إليه الحملة الحالية لتنظيف القضاء رفع الحصانة عن القضاة جميعاً اولاً. اذذاك تُقاس جدية مجلسي الوزراء والنواب في استكمال ما بدأه القضاء بنفسه اذ اعدّ الملفات، بلا تسييس، ويستكمله لوحده. تطهير 1965 يظل افضل حالاً من خيبة 1999.

بواسطةنقولا ناصيف
مصدرجريدة الاخبار
المادة السابقةفخامة الرئيس من يوقف القرصان الكبير؟
المقالة القادمةشروط “سيدر” تفرض خطة الكهرباء… بعد تسع سنوات