كل الجهد المنجز من قبل وزارة المالية لا يبدو أنه سيتوج قريباً بإقرار مجلس النواب لقطوع الحسابات من العام 1997 إلى العام 2017. فما تردد بشكل غير رسمي منذ أشهر، تم تأكيده أمس من مجلس النواب: ديوان المحاسبة لم يعمل منذ حوّلت إليه الحسابات سوى على إنجاز قطع حساب العام 2017، وقد أنجزه. أما حسابات السنوات التي سبقت، فالديوان يحتاج إلى سنوات لإنجازها
نصت المادة 65 من قانون موازنة العام 2017 على أن «على الحكومة إنجاز عملية إنتاج جميع الحسابات المالية المدققة منذ 1993 وحتى سنة 2015 ضمنا خلال فترة لا تتعدى السنة اعتبارا من تاريخ نفاذ هذا القانون (نشر في الجريدة الرسمية في 20 تشرين الأول 2017). وإحالة مشاريع قوانين قطع الحساب عن السنوات التي لم تقر فيها الى مجلس النواب، عملا بالاصول الدستورية والقانونية المرعية».
بحجة هذه المادة، أقرت موازنة 2017 من دون تصديق قطع حساب العام 2015، وبحجتها أقرت موازنة 2018 في نيسان 2018، أي قبل انتهاء المهلة، من دون قطع الحساب.
عند مناقشة موازنة العام 2019 انتفت الحجج. ويُفترض، بحسب ما ذكر رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان في 10 الجاري، أن «تتحمّل الحكومة مسؤولياتها بإرسال مشروع قانون يتعلق بقطوعات الحسابات، التي يشكل إقرارها موجباً دستورياً يسبق إقرار الموازنة». كنعان أكد أن «المطلوب هو القطوعات جميعها لا قطع حساب 2017 فقط».
في الأساس، وبحسب المادة 65 من موازنة 2017، لم يتم التطرق إلى قطوع الحسابات التي تلي العام 2015 انطلاقاً من أنها ستكون أمراً بديهياً وجزءاً من الانتظام المالي، بعد إنجاز الحسابات العالقة. أي أنه لا يكفي أن ترسل الحكومة قطع حساب العام 2017، حتى يقر المجلس موازنة 2019. المطلوب قانوناً إرسال كل القطوعات الباقية. وما سبق أكده كنعان أكثر من مرة، مشيراً إلى رفض كل ما يحكى عن تسوية مالية.
كل ذلك المسار نُسف أثناء مناقشة لجنة المال النيابية لموازنة رئاسة مجلس الوزراء، أمس. فقد ذهب رئيس ديوان المحاسبة إلى حسم المسألة وتأكيد ما تردد عن اكتفاء الديوان بتدقيق قطع حساب العام 2017، بما يسمح بإقرار موازنة العام 2019، على أن يعمد بعد ذلك إلى بدء تدقيق السنوات التي سبقت.
هل هذا كاف؟ بالنسبة لأكثر من نائب، الأمر بحاجة إلى تبرير من مجلس الوزراء، ولا يفترض أن يمر مرور الكرام، خاصة أن المادة 65 واضحة في هذا المجال. لكن، في المقابل، فإن كثراً من النواب تعاملوا مع هذا المخرج كأمر مسلّم به ومعروف، انطلاقاً من قناعتهم بأن المطلوب إقرار موازنة 2019، وبالتالي تصديق قطع حساب 2017 لا فتح دفاتر الماضي!
المفاجأة الأكبر كانت في إشارة رئيس الديوان أحمد حمدان إلى أن التدقيق في حسابات كل سنة يحتاج إلى أربعة أشهر، أي أن تدقيق الحسابات من 1997 إلى 2007 يحتاج إلى 40 شهراً (ثلاث سنوات ونصف سنة)!
عندما يُسأل حمدان عن سبب الحاجة إلى كل هذا الوقت يسارع إلى التذكير بأن وزارة المالية أنجزت الحسابات خلال ثماني سنوات، وبالتالي من الطبيعي أن يحتاج الديوان لتدقيقها الى مدة طويلة. لكن مصادر مطلعة تذكّر أن المالية أعدت الحسابات التي لم تكن موجودة في الأصل، كما عمدت إلى تدقيق آلاف المستندات والبحث عن أصولها الضائعة وتكوين أرصدة الدخول، بينما يفترض بوظيفة الديوان أن تقتصر على أخذ عينات من الحسابات للتحقق من أن الحكومة التزمت بتنفيذ الموازنة. وهذا يعني أن التدقيق في صحة الحسابات ليس هو الغاية، بل التأكد من احترام الحكومة للموازنة وأرقامها، انطلاقاً من الافتراض البديهي بأن الحسابات صحيحة. هذا على الأقل ما يفعله ديوان المحاسبة الفرنسي الذي نسخت تجربته في لبنان. فهناك لا يحل الديوان محل مديرية الخزينة التي تعدّ الحسابات، بل يعتمد على أرقامها للتأكد من صحة الصرف وإبداء الرأي بطريقة استخدام الحكومة للمال العام.
وحتى مع اعتبار أن حالة الحسابات في لبنان لا يمكن مقارنتها مع حالتها في فرنسا، فإن إنجاز تدقيق حسابات العام 2017 في الديوان، يؤكد أن المنهجية المعتمدة من وزارة المالية صحيحة، وبالتالي فإن الحسابات كلها صحيحة كما حسابات العام 2017، المبني عليها. أي أنه ليس المطلوب مطابقة الأرقام بل التأكد من احترام الحكومة لهذه الأرقام.
أكثر من ذلك، هل يكفي تصديق الديوان لحسابات 2017 لإقرار موازنة 2019؟ وكيف سيبرر مجلس النواب عدم التزامه بمادة قانونية وضعها بنفسه؟ وهل يمكنه أن يعزل حسابات العام 2017 عما سبقها؟ ومع التسليم بأن الحسابات تحتاج إلى ثلاث سنوات ونصف سنة لإنجازها، فهل هذا يعني أن المجلس سيقر موازنات الأعوام 2020 و20121 و2021 بالآلية نفسها؟ وهل يمكن أن يعتبر هذا العمل انتظاماً للمالية العامة؟
تجدر الإشارة إلى أن رئيس لجنة المال نفسه قال إن التذرع بأن حساب السنوات التي تسبق العام 2017 تخضع للتدقيق لا يعفي الحكومة من إرسال قطوع الحسابات إلى مجلس النواب، انطلاقاً من أن المادة 87 من الدستور تفصل بين الإحالة إلى مجلس النواب وبين الإحالة إلى الديوان.
وهذا أيضاً ما أكده مرجع قانوني أعد دراسة في هذا الإطار مفادها أن النص الدستوري يلزم الحكومة إرسال مشروع قانون قطع الحساب إلى المجلس النيابي، لكن لا وجود لأي نص يحدّد أن المشروع المرسل يفترض أن يكون قد خضع لتدقيق ديوان المحاسبة. وهذا لا يعني استبعاداً لدور الديوان، بل تأكيداً للفصل بين السلطات، خاصة أن الديوان غير ملزم بمهلة محددة لتصديق قطع الحساب بخلاف مجلس النواب. أضف إلى ذلك أن المجلس هو صاحب الحق الدستوري الأصيل في تدقيق الحسابات. وكل ذلك يعني أن المطلوب من الحكومة إرسال مشروع قانون بقطوع الحسابات إلى مجلس النواب، كما يطالب رئيس لجنة المال، بغض النظر عن استمرار ديوان المحاسبة بتدقيقها.
هذا تحديداً ما كان يحصل طيلة السنوات الماضية، فمجلس النواب كان يصدق قطوع الحسابات مع التحفظ، بانتظار إبداء ديوان المحاسبة لملاحظاته. لكن الفارق أن الديوان الذي كان يرفض وضع ملاحظات على قطع الحساب لأن حسابات المهمة لم تكن صحيحة، صار يملك حسابات صحيحة وبموازين دخول صحيحة. ما يعني أن المطلوب أولاً إرسال قطوع الحسابات إلى مجلس النواب، صاحب القرار بالتصرف بها، فهو إما يدقق بها بنفسه ويقرها أو ينسق مع الديوان لتصديقها أو يقرها إلى حين إنجازها من ديوان المحاسبة…