اكتفى مصرف لبنان منذ أيار العام الماضي من تأمين الدولارات لدعم الدواء، وأمَّنَ القليل لضمان استمرار دعم أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية. وهذه الخطوة هي ترجمة فعلية لرفع الدعم عن الدواء الذي لم يتوفّر في الصيدليات حتّى في أثناء تطبيق سياسة الدعم. ومُذ رَفَعَ المركزي يده عن الملف، استمرّ السجال بينه وبين مستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية. فالطرفان يريدان إثبات براءتهما من المسؤولية عن شح الدواء. فتوالت الأرقام والمعطيات التي يفسّرها كلّ طرفٍ من وجهة نظره. فالمركزي تعنيه الحسابات وانعكاسات الصرف المتزايد للدولارات على موجوداته وعلى الاقتصاد عموماً. والمستوردون يبرّرون بالكورونا وازدياد طلب المواطنين. لكن النتيجة: استنزاف الدولارات بلا دواء.
من الاحتياطي إلى حقوق السحب
انتقد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سياسة الدعم العشوائية التي انتهجتها الحكومات منذ بدء الانهيار، لكنه استمر في رفدها بالدولارات جرياً على عادته منذ توليه رئاسة الحاكمية. لكن الضغط المتزايد على موجودات المركزي بالدولار، ووصول السكّين إلى رقبة الاحتياطي الإلزامي الذي تخبّطت الأرقام حول حجمه وتناقصه من نحو 17 مليار دولار إلى نحو 11 مليار دولار، وصولاً إلى ما بين 7 و8 مليارات، جعل سلامة يحسم الأمر، بأن لا دعم من الاحتياطي الإلزامي، خصوصاً وأن ما أمّنه المركزي من دولارات لتغطية الفاتورة الصحية للأشهر الستة الأولى من العام 2021، قد فاق قيمة الفاتورة الصحية للعام 2020 كاملاً. وهو ما رفضه المستوردون الذين اعتبروا الزيادة طبيعية، وليست بذلك القدر من السوء الذي يصوّره المركزي. ففاتورة الاستيراد للعام 2020 بلغت 98 مليون دولار شهرياً، فيما فاتورة الأشهر الخمسة الأولى من العام 2021 بلغت 107 مليون دولار، أي بفارق 9 مليون دولار فقط.
عرض الأرقام والمظلوميات هذا، لم يشفع في فتح درج الاحتياطي الإلزامي. ومع إصرار المركزي على “تنقيط” تأمين الدولارات، كان لا بد من الاتجاه نحو مصدر آخر، فكانت حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي. فأقرّت الحكومة يوم أمس استعمال 35 مليون دولار شهرياً لدعم استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية، ويقسم المبلغ بين 25 مليون للأدوية و10 مليون للمستلزمات.
نقصٌ وتجاوزات
لا شك بأن ازدياد حجم النفقات للدعم في ظل غياب الواردات، يُسَجَّل كحساب سلبي، إلاّ أن تأمين الدواء وغيره من المستلزمات كالنفط والقمح، في هذه الظروف، يبقى عزاءً مقبولاً. لكن ذلك لا يحصل. فالصيدليات لا تستلم الكميات الكافية من الأدوية، فيما مخازن المستوردين تعج بالأدوية المنتظِرة نظرياً تأمين الدولارات من مصرف لبنان أو أي مصدر آخر، من دون أن تُطرَح فعلياً في السوق. أما الصيدليات المحظية، فلا تنقطع من أي دواء مهما استعصت حالته أو ارتفع حجم الكمية المطلوبة، وهو ما واجهه المرضى، حتى في أدوية كورونا، وتحديداً في إبرة “ريمديسفير” Remdesivir والتي يتراوح سعرها بين نحو 300 ألف ليرة و3 مليون ليرة. وكذلك الأمر بالنسبة لأدوية الأمراض السرطانية، إذ يشكو بعض المرضى من عدم توفّر الأدوية في مستشفى بيروت الحكومي في الكرنتينا، حيث من المفترض أن تؤمَّن. لكن الجواب شبه الدائم للموظفين هناك، هو عدم توفّر الدواء. علماً أن اتصالات حزبية وسياسية قادرة على تأمينه بسهولة. أما الصيدليات التابعة مباشرة أو غير مباشرة فتؤمّن الأدوية بعد اتفاق مع الزبون على السعر، مع ترك هامش قليل للزيادة عند موعد التسليم، بحجّة أسعار الدولار أو فواتير المستوردين.
ولا يبدو أن انحسار التجاوزات ممكن، ولا تأمين الأدوية كذلك. فالسوق بات يحتاج إلى نحو 100 مليون دولار شهرياً وفق أرقام المستوردين ومصرف لبنان، فيما الحكومة تريد “ضخ” 35 مليون دولار، يرى وزير الصحة فراس الأبيض بأنها “خطوة نحو الانفراج في موضوع النقص الحاصل في الأدوية، ولاسيما أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية”. ويأتي هذا الموقف في ظل استقالة تامة للوزارة من دورها في الرقابة سواء على الصيدليات أو المستشفيات الخاصة والحكومية، ليبقى الأمل فقط، في فتات يشكّل نحو ثلث ما يحتاجه السوق.
لا حقوق ولا دواء
الحكومة بدأت بإحراق الملايين من حقوق السحب من دون تأمين الدواء والمستلزمات الطبية. فالفاتورة السنوية التي ستُسحَب من الحقوق، ستبلغ على الأقل 420 مليون دولار، لن تسد حاجة السوق ولن يُعرَف على وجه الدقة أين ستذهب، ولا أي شركات ستستفيد أكثر من غيرها. ومن المرجّح أن ينشط السوق قليلاً كتدبير مؤقَّت ينسجم مع بدء موسم الانتخابات، فتتأمّن بعض الأدوية لتنقطع بعد نحو شهر، فتُستَأنَف حلقات مسلسل الدواء.
على أن استعمال حقوق السحب، وإن كان مباحاً قانوناً، لكنه مقيَّد بشرط أخلاقي، وهو استغلاله لاخراج البلاد من محنتها. والمقلق أن صندوق النقد يمكنه لاحقاً الامتناع عن اعطاء لبنان حقوق السحب الخاصة به، إذا رأى أنه أساء استغلال الحقوق المفرج عنها في أيلول 2021. فإساءة الاستعمال وعدم انتشال البلاد من الأزمة، ستعرقل إمكانية تعزيز لبنان لمساهمته في رأسمال صندوق النقد، وبالتالي سيفقد ثقة الصندوق ولن يستطيع تجميع أموال جديدة. فيكون أحرق أمواله التي بين يديه وعجز عن إدخار أخرى.