مع تزايد حالات الإصابة بمرض السرطان في لبنان، يُطرح السؤال عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لدراسة هذه الحالة التي أصبحت مُشكلة «صحّة عامّة» بامتياز. هذا الارتفاع في حالات الإصابة بالمرض الخبيث، جعل لبنان في المرتبة الأولى بين دول غرب أسيا (كنسبة مئوية من عدد السكان) مع 8,976 حالة وفاة وتسجيل 17,294 حالة إصابة جديدة في العام 2018، ليُصبح بذلك عدد المُصابين بمرض السرطان 41,834 شخصاً ما بين العامين 2013 و2018.
أولّ عامل في هذه الزيادة يخطر على بال المراقب هو عامل التلوّث البيئي، بالإضافة إلى عوامل تقليدية مثل التدخين وقلّة النشاط الجسدي… وزارة الصحّة تقول ان هذا الارتفاع يعود إلى التقنيات الحديثة التي ساعدت في الكشف المُبّكر عن مرض السرطان، إلا أن حالة بلدة برّ الياس البقاعية كفيلة بضحد هذه الحجّة مع 600 إصابة بين السكان البالغ عددهم 12.185 نسمة (أي ما يوازي 5%). أيضًا هناك 60 إصابة في بلدة حوش الرافقة على 1.700 نسمة، و40 إصابة في بلدة تمنين التحتا على 3.863 نسمة!
تنصّ المادّة الواحدة والعشرون من الباب الرابع (تقييم الأثر البيئي) من قانون حماية البيئة رقم 444 على ما يأتي: «على الجهات المعنية في القطاعين العام والخاص اجراء دراسات الفحص البيئي المبدئي أو تقييم الأثر البيئي للمشاريع التي قد تهدد البيئة، بسبب حجمها أو طبيعتها أو اثرها أو نشاطاتها. تراجع وزارة البيئة هذه الدراسات وتوافق عليها بعد التأكد من ملاءمتها لشروط سلامة البيئة واستدامة الموارد الطبيعية». بمعنى آخر كل نشاط مهما كان نوعه مقرون بدراسة أثر بيئي على أن توافق وزارة البيئة على النشاط أو ترفضه بعد إطلاعها على نتائج الدراسة. ولكن للأسف النتائج على الأرض آلاف المشاريع المُلوِثة والثمن يدفعه المواطن من صحّته. آخر هذه المشاريع الكارثية هو طمر النفايات في مطمري برج حمّود والكوستا برافا حيث يتمّ إلقاء النفايات في البحر من دون أي معالجة خاصة مع ما ينجم عن ذلك من تلوّث للثروة السمكية، المياه الجوفية (البحرية)، والهواء في منطقة بيروت وجبل لبنان.
لتقييم كلفة التلوّث على الاقتصاد، يتوجّب معرفة أن التلوّث البيئي يشمل الهواء، الماء، التربة، الأبّنية، والأطعمة وكل ما يُحيط بالإنسان. والتقييم الاقتصادي لكلفة هذا التلوّث يأخذ بالدرجة الأولى التداعيات على الإنسان في حياته اليومية، كما والتداعيات الناتجة من الإخلال بالاتفاقيات الدولية.
} وزارة البيئة… وتطبيق القوانين }
ملفّ النفايات في لبنان هو ملف توجّب إحالته إلى محكمة دولية خاصّة بلبنان نظرا إلى الضرّر الهائل الذي سببه هذا الملف على البيئة وعلى المواطن. أكثر من 15 ألف طنّ من النفايات تمّ طمّرها في مطمر الناعمة مع مُعدّل فرز لا يزيد عن 10% أي تمّ طمر 90% من النفايات. ولم يكن يكفي 15 ألف طنّ من السموم في مطمر الناعمة لنتعلّم منها درسا، فقد تمّ اتخاذ القرار بطمر النفايات في برج حمود وفي الكوستا برافا بالطريقة نفسها ومن دون فرز. والأصعب يبقى أن الطمر يتمّ في البحر! هل تمّ احترام قانون 444 عند إقرار الطمر في المطمرين؟ هل تقوم وزارة البيئة بالمراقبة كما يفرض عليها القانون 444؟ في الواقع تحوّل الشاطئ في برجّ حمود إلى منطقة منكوبة أشبه بمنطقة «تشرنوبيل» عند انفجار المفاعل النووي آنذاك!
والأن وبعد وصول المطمرين إلى حالة الاستيعاب القصوى، يأتي قرار اعتماد المحارق ليطرح السؤال من جديد: هل هناك دراسة بيئية للمحارق كما نصّ عليه قانون حماية البيئة؟ وما رأي وزارة البيئة في هذا الموضوع؟
وماذا نقول عن نهر الليطاني والسموم التي تُفرغ فيه كل يوم؟ لقد طال انتظار المواطن لكي تتحرّك مصلحة الليطاني وتُقيم دعاوى ضدّ المُلوثين. 800 مليون دولار أميركي كلفة تنظيف نهر الليطاني كما أقرّته الحكومة، ولا شيء يؤكّد أن هذا المبلغ سيكفي نتيجة استمرار التلوّث كما تُظهره التقارير التلفزيونية.
أمّا الصرف الصحي فحدّث ولا حرج، حيث يتمّ إفراغ هذا الصرف في البحر بنسبة تتعدّى الـ 75% في المناطق الساحلية وبنسبة تُقارب الـ 100% في الأرض في المناطق الجبلية، مما ينتج منه تلوّث الثروة السمكية في البحر والمياه الجوفية في الجبال. أيضًا تلويث الشاطئ يضرب السياحة حيث يتفادى السياح الغطس في المياه الملوّثة ويكفي النظر إلى الشاطئ لمعرفة حجم الكارثة!
ولا يجب أن ننسى ما للمقالع والكسّارات من أثر في البيئة من ناحية تشويها ولكن أيضًا من ناحية الضرر على صحّة السكان الذين يعيشون بالقرب من هذه المقالع والكسّارات. وهنا أيضًا نسأل عن دراسة الأثر البيئي لهذه المشاريع؟
كما لا بد من طرح التساؤلات عن ابقاء معمل الباطون على باب الشوف في بلدة عين دارة الجميلة بطبيعتها، وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم يتم انشاء المعمل بين رياق وشتورة حيث المساحة هناك تصل الى 65 كلم او بين شتورة وبر الياس حيث المساحة تصل الى 70 كلم اي ان هناك مساحات شاسعة تتسع لعشرات معامل الباطون.
} التلوّث في لبنان قنبلة موقوتة }
أسباب التلوّث في لبنان عديدة وعلى رأسها النفايات (التي تبقى المصدر الأساسي للتلوّث نظرا إلى حجمها)، الصرف الصحّي، المقالع والكسّارات، نفايات المصانع، نفايات المُستشفيات، معامل الكهرباء والبواخر، النقل، واستيراد النفايات بشكل غير قانوني في بعض الأحيان مثل حادثة المواد المُشّعة في المرفأ. أمّا التداعيات فهي تشمل مياه الشرب والمياه الجوفية، الهواء، التربة والأرض، المزروعات التي تُروى بمياه ملوّثة، تشويه بيئي إضافة إلى الأضرار الاقتصادية (غياب الفرص الاقتصادية) الناتجة منها. كلّ هذا يؤدّي إلى أمراض سرطانية وأمراض الجهاز التنفّسي مثل الملاريا، والتسمّم الغذائي، وحمّى التيفوئيد والكوليرا وغيرها وذلك بسبب انتشار الميكروبات والطفيليات. أضف إلى ذلك أنّ تعفّن النفايات يخلق الروائح الكريهة والأبخرة التي تُهيّج الحساسية والالتهاب الرئوي كما وإصدار غازات سامّة مثل كبريتيد الهيدروجين والميثان وثاني أكسيد الكربون. أيضا أظهرت دراسات أن تراكم النفايات يؤدّي إلى ظهور عدد من الحيوانات (الذباب، البعوض، الجرذان والفئران) التي تؤدي دوراً أساسياً في نقل الأمراض كالسالمونيلا.
ويبقى الأخطر في كل هذا ما تقدّمت به بعض الدراسات التي قامت بها منظّمة الصحّة العالمية والتي أثبتت أن مكبّات النفايات تخلق عيوباً وراثية بين الأطفال الذين ولدوا من أب وأم يعيشان على بعد 3 كيلومترات من موقع المكبّ. ووفقاً للمُنظمة، فإنّ ثلاثة ملايين طفل في العالم يقضون سنوياً نتيجة مكبات النفايات. على أي حال، هناك غياب لدراسات كمّية (Quantitative) عن تأثير التلوّث البيئي في لبنان بصحّة المواطن وتبقى قضية بر الياس وعدد الإصابات بمرض السرطان فيها، دافعاً أساسياً لوجوب القيام بمثل هذه الدراسات.
المحاكاة الحسابية التي قمنا بها والمبنية على نموذج حسابي (Analytical Model)، تُظّهر أن التداعيات تشمل مناطق قريبة وبعيدة من أماكن التلوّث على مثال مطمر برج حمّود الذي يبعث بروائح وبكتيريا مُنتشرة في الهواء تمتد الى برج حمود، الدورة، الدكوانة، جلّ الديب، الزلقا، وصولاً إلى رومية وبصاليم وحتى بيت مري! هذا الأمر بالطبع ستكون له تداعيات صحّية وبيئية جمّة تمّ ذكرها أعلاه. وبما أنّ التلوّث لن يقتصر على الانتقال بالهواء، فإنّ الاحتكاك الجسدي الناتج من النشاط الاقتصادي سيؤدي دوراً في انتقال البكتيريا والأمراض إلى مناطق لحدود الكيلومترات حول المكبّ: الدورة، المرفأ، الأشرفية، الباشورة، بدارو، سن الفيل، المكلس، وصولاً إلى الزلقا وجلّ الديب! وللتوصّل إلى هذا الاستنتاج، قمنا بمحاكاة حسابية تعتمد على نموذج «Gaussian» تخفُ قوته مع ازدياد المسافة.
} الكلفة الاقتصادية للتلوّث في لبنان }
الكلفة المالية والاقتصادية لملف النفايات هي كلفة هائلة على خزينة الدّولة وعلى المواطن. ولن ندخل في تفاصيل الكلفة التشغيلية في السنين الماضية، بل سنكتفي بدراسة كلفة التداعيات على البيئة وعلى الإنسان. هذه الكلفة مقسومة إلى قسمين:
أولاً ـ كلفة مباشرة: وتتضمّن الخسائر المباشرة على مالية الدوّلة وعلى جيب المواطن والشركات. وهذه الكلفة تنقسم بحدّ ذاتها إلى كلفة سنوية دورية وكلفة إعادة التأهيل والتعويض على المُتضرّرين. المنّهجية المُعتمدة لتقدير التداعيات المالية المباشرة هي منهجية تحليلية (Analytical Methodology) مع هامش خطأ بنسبة تصل إلى 20% في بعض الأحيان.
ثانيًا ـ كلفة غير مباشرة: وتتضمّن الخسائر على الإقتصاد نتيجة غياب الفرص الإقتصادية مثل عدم القيام بمشاريع سياحية على الشاطئ في محيط المطامر، أو عدّم خلق شركات تُعنى بالفرز مما يحرم الإقتصاد من فرص عمل وما يواكبها من إستهلاك، أو خلق معامل تكرير للصرف الصحي… أمّا المنهجية المُعتمدة لتقدير الخسائر الإقتصادية فهي تعتمد على نموذج ماكرو إقتصادي (Macroeconometric Model ) مع هامش خطأ يفوق الـ 30% نظرًا إلى غياب الأرقام وتشابك التداعيات مع تداعيات غياب السياسات الإقتصادية.
الأرقام التي وصلنا إليها تُشير إلى أنّ الخسائر المباشرة السنوية (الدوّرية) على خزينة الدوّلة وعلى جيب المواطن تبلغ 1.45 مليار دولار أميركي (4.5% من الناتج المحلّي الإجمالي) موزّعة على النحوّ التالي: الهواء 235 مليون دولار أميركي تداعيات تلوّث المياه، 210 مليون د.أ تداعيات تلوّث الهواء، 475 مليار د.أ. تداعيات تلوّث الأرض، 135 مليون د.أ. تداعيات التشويه البيئي، و390 مليون د.أ. كلفة الفاتورة الصحّية. الجدير ذكره أن هناك تشابكاً في التداعيات Overlapping) ) وبالتالي قد يكون هناك قسم من الأرقام محسوباً مرّتين (أقلّ من 5%).
أمّا كلفة التنظيف والتعويض على المتضرّرين (بالدرجة الأولى عوائل الذين ماتوا نتيجة التلوّث) فقد بلغت 6.33 مليار د.أ أميركي (11.72% من الناتج المحلّي الإجمالي) موزّعة على الشكل الآتي : 2 مليار د.أ لتنظيف تلوّث المياه (خصوصًا الآبار الجوفية)، 252 مليون د.أ لتلوّث المياه، 900 مليون د.أ تلوّث الأرض، 675 مليون د.أ للتشويه البيئي، و2.5 مليار د.أ طبابة وتعويض على المصابين وعوائل الموتى.
إضافة إلى هذه الأرقام، هناك مخالفة واضحة لإتفاقية برشلونة (1976) والمُقرّة بالقانون رقم 34 تاريخ 16/10/2008. هذه المُخالفة قد تكون لها تداعيات مالية في حال قرّرت الدول المُنضمّة إلى الإتفاقية مقاضاة الدولة اللبنانية عن رمي النفايات في البحر مقابل مطمري برج حمّود والكوستا برافا.
يبقى القول أن مخالفة قانون حماية البيئة رقم 444 هو السبب الأول لكلّ هذا التلوّث فحبّذا لو يبدأ تطبيقه أقلّه على المشاريع الجديدة (مثل المحارق) تفاديًا لمزيد من الضرر على صحّة المواطن وعلى خزينة الدولة، لأن التاريخ لن يرحم.