سيطر «العارض الوحيد» على المناقصتين اللتين أجرتهما وزارة الصحة لشراء «أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية» وأدوية «غسل الكلى». فقد بلغت نسبة الشركات الفائزة بلا منافسة، كونها «العارض الوحيد»، مقارنة مع عدد العارضين الإجمالي نحو 65% لتوريد أدوية الأمراض المستعصية و81% لتوريد أدوية غسل الكلى. وبلغت القيمة الإجمالية للعروض المقدّمة في المناقصتين على أساس «العارض الوحيد» 48.5 مليون دولار أو ما يوازي 75.7% من مجمل قيمة المناقصتين البالغة 64 مليون دولار.وكانت الوزارة قد أطلقت في 23 نيسان الماضي مناقصتين لتلزيم توريد 87 صنفاً من أدوية الأمراض المستعصية، و38 صنفاً من مستلزمات وأدوية غسيل الكلى. وسمح دفتر الشروط في مادته الثالثة، أن يُجرى التلزيم على أساس تقديم أسعار لكل صنف على حدة، أي أن يحقّ للعارض الاشتراك في الصفقة على أساس صنف واحد أو أكثر. وفي 15 أيار الماضي، جرى فض العروض بعد استبعاد شركتين من أصل 23 شركة قدمت عروضها، وتبيّن أن غالبية العروض المقدّمة كانت من عدد محدود من الشركات على عدد واسع من الأصناف، وأن النسبة الأكبر من العروض لُزّمت على أساس العارض الوحيد رغم كل ما قيل عن أن أسعار شراء الأدوية المقدمة من العارضين، أتت أقلّ من السابق.
في المناقصة الأولى، كان لافتاً غياب المنافسة عن 55% من الأصناف التي وردت ضمن لوائح الأمراض المستعصية والمزمنة. فقد شاركت 23 شركة وفازت 15 شركة بلا أي منافسة لأنها كانت «العارض الوحيد». واستحوذت الشركات الـ15 على 47 صنفاً من الأدوية بقيمة 45.5 مليون دولار، توحي هذه النتائج بأن الشركات المحتكرة لاستيراد الدواء، نجحت في تجاوز دفتر الشروط بما يشبه الاتفاق في ما بينها على توزيع مغانم الصفقة. وتتعزّز هذه الفرضية مع وقائع فضّ العروض التي أظهرت أن العروض الفائزة بـ«العارض الوحيد» تعود إلى المستوردين المعروفين بامتلاك الوكلات الحصرية لأدوية «البراند». شركة «مرساكو» مثلاً فازت بـ11 صنفاً قيمتها الإجمالية 11.5 مليون دولار، أي 19% من مجمل المناقصة. و«أومنيفارما» فازت بـ8 أصناف قيمتها 11.7 مليون دولار. عملياً، التركّز الاحتكاري المعروف في السوق، انسحب على نتائج المناقصة بفوز شركتين بأكثر من ثلث القيمة الإجمالية للأصناف المدرجة في مناقصة الأمراض المستعصية والمزمنة.
وفي المقابل، تنافست 18 شركة على 38 صنفاً من أدوية الأمراض المستعصية (43% من مجمل أصناف هذه الفئة) بقيمة 14.36 مليون دولار (بقي صنفان من الأدوية لم يقدّم عليهما أي عرض). وكانت الحصّة الأكبر من الفوز للشركات المستوردة التي تبيع أدوية «جينريك». وبلغت القيمة الإجمالية لهذه العروض 14.3 مليون دولار، أي 24% من القيمة الإجمالية لهذه المناقصة. وفازت شركة «LebIRAN» التي تستورد أدويتها من إيران حصراً، بـ6 عروض قيمتها 1.8 مليون دولار، وفازت «LEVANT PULSE» التي تعتمد على الاستيراد من الهند بـ6 عروض أيضاً قيمتها 1.9 مليون دولار، وحصلت شركة الاتحاد «UNION» التي تعدّ من كبار المحتكرين على 5 عروض قيمتها 1.9 مليون دولار، فيما ربحت شركة «MEDIS» التي تستورد من تونس 4 عروض قيمتها 640 ألف دولار.
أيضاً تكرّر الأمر نفسه في المناقصة الثانية المتعلقة بتوريد مستلزمات وأدوية غسيل الكلى. فقد شاركت فيها 11 شركة من بينها 9 شركات فازت بـ38 صنفاً بقيمة تبلغ 2.99 مليون دولار لأنها «العارض الوحيد». وتنافست الشركات المشاركة على 19 صنفاً من الأدوية بقيمة إجمالية تبلغ 970 ألف دولار. وكان لافتاً استحواذ شركة «أبيلا» على 68% من العروض في فئة العارض الوحيد في مناقصة أدوية ومستلزمات غسيل الكلى، ففازت بتوريد 13 صنفاً بقيمة 2.4 مليون دولار، أي 60% من القيمة الإجمالية للمناقصة.
هذه الوقائع تشير إلى أن غياب المنافسة أتى لحساب الاحتكار. فقد تبيّن أن شركات الأدوية التي شاركت في المناقصتين، عمدت إلى إنشاء أخرى مملوكة منها بشكل غير مباشر من أجل دفعها إلى المشاركة في المناقصات لإظهار وجود منافسة وهمية. فعلى سبيل المثال، يتبيّن أن هناك ثلاث شركات مملوكة من مجموع فتال، وهي: شركة خليل فتال، دروغري فتال، سنشري فارما. ومجموعة «HOLMED» تملك ثلاث شركات أيضاً هي: إنترفارما، أبيلا، وفرعون.
ويفسّر المطلعون ما قيل عن انخفاض الأسعار في هاتين المناقصتين، بوجود توجّه جديد لاعتماد جزئي للأدوية الأرخص من دون تدقيق في النوعية أو المصدر، إذ فازت أدوية ذات منشأ هندي وإيراني وتونسي لم يكن لها مكان سابقاً في المناقصات، مثل شركة «LEVANT PULSE» مثلاً التي سجلت وصنّفت في وزارة الصحة 8 أدوية هندية من بينها 6 فازت في المناقصة، علماً بأنّ التسجيل تمّت الموافقة عليه في النصف الثاني من عام 2023.
وإلى جانب ذلك، فإن المشاركة في المناقصتين أصبحت أكثر زخماً من السابق، إذ إنه في السنوات الأولى للأزمة «كانت الصحة تعتمد على طلب عروض الأسعار لتأمين حاجاتها من الأدوية والمستلزمات»، بحسب أحد الصيادلة العاملين فيها. ففي عام 2023، شارك 4 عارضين فقط في المناقصة لأسباب عدة أهمها «عدم تشجّعهم للدخول مع الدولة في معاملات مالية طويلة الأمد، وتخوّفهم من طريقة الدفع»، يضيف المصدر نفسه. وبالفعل كانت هواجسهم في مكانها، فالوزارة لم تدفع حتى اليوم ثمن الأصناف التي سلّمت في حينها، يقول مدير فني لإحدى شركات استيراد الدواء. ولكن يشير عدد من المستوردين اليوم إلى «أنّ هناك مراعاةً في تسريع معاملات الدفع، والعقود مع المستوردين وقّعت فعلاً يوم الخميس الفائت في وزارة الصحة».
بالدعم الخارجي استمرت الطبابة العسكرية
استمرت الطبابة العسكرية في تأمين التغطية الصحية لنحو 350 ألف شخص من العسكريين وذويهم، طوال سنوات الأزمة. ما أثار التساؤلات وسط الانهيار الذي أصاب كل الصناديق الضامنة الأخرى بسبب الأزمة النقدية والمصرفية.
قبل الأزمة، كانت موازنة الاستشفاء تبلغ 138 مليون دولار، ومع انهيار قيمة الاعتمادات التي كانت مخصصة للطبابة العسكرية في الجيش من الموازنة العامة، عمدت المؤسسة إلى الاعتماد على استمرارية الدعم الخارجي بأموال لم تدخل إلى الخزينة العامة، بل صرفت بعيداً من الآليات القانونية المعتمدة في القطاع العام. قصة شراء الجيش للأدوية ومستلزماته الطبية تروى على جزئين، الأول قبل تعمّق الانهيار عام 2020، إذ كان الجيش يدعو المستوردين لمناقصات عامة إلى شراء الأدوية، ويلي تقديم العروض جلسة مناقشة مع ممثلي الشركات العارضة، ويحتمل خلالها أن يقوم الممثلون بتقديم عروض جديدة بأسعار أقل، ومن بعدها تذاع النتائج ويربح الأرخص، من دون أن يخلو الأمر من تسرّب بعض الأسعار للمنافسين ليقوموا بالمضاربة على بعضهم. أما الجزء الثاني، فأتى بعد عام 2020، حينها توقفت المناقصات بعد إعراض الشركات المستوردة عن تقديم العروض بسبب التدهور المستمر في سعر الصرف، وتأخر موعد الدفع عن موعد التسليم. بالتالي، اعتمد الجيش على أموال الدعم، واشترى الأدوية بالمفرّق وبحسب الحاجات من دون المرور بالمناقصات، إنما عبر عروض الأسعار، أو «ميني مناقصة»، بحسب ما يقوله أحد الصيادلة المسؤولين عن توريد الدواء لمصلحة الجيش، على أن يدفع ثمن الأدوية عند التسليم وبالعملة الأجنبية، وفي بعض الأحيان كان يقوم بتحويل الأموال مباشرةً إلى حساب الشركات المصنعة للدواء في الخارج.