وسط حضور مكثف، انطلقت أمس الثلاثاء في باريس، وتحديداً في مقر وزارة الاقتصاد، فعاليات منتدى «رؤية الخليج» الذي تنظمه هيئة الترويج للحضور الفرنسي الاقتصادي والتجاري والاستثماري عبر العالم، المسماة «بيزنس فرنس»، وذلك في نسخته الأولى التي يريد الطرفان تحويلها إلى موعد ثابت بالنظر لما يريان فيه من أهمية وفائدة.
وواضح من الكلمات التي ألقيت والمداخلات التي حصلت في اليوم الأول من المنتدى أن الطرفين يستشعران الحاجة لتعزيز علاقة قديمة لكنها تحتاج إلى تجديد وإلى إعطائها مضامين تتناسب مع التطورات التي يعيشها العالم. وكان وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير بالغ الصراحة بتأكيده أن دول مجلس التعاون الخليجي الست «تلعب دوراً حاسماً في موضوع الانتقال إلى الطاقة النظيفة».
وقال لومير ما حرفيته: «إن العالم القديم في منطقة الخليج كان يعني النفط، لكن صورة العالم الجديد بالنسبة للدول الخليجية هي الاستثمار المكثف من أجل الطاقة النظيفة ومحاربة الاحتباس الحراري».
وتريد باريس أن تقدم نفسها على أنها في طليعة الدول الساعية إلى تحقيق النقلة البيئوية والاقتصاد الأخضر عديم الكربون؛ فإن وزير اقتصادها يبرز أهمية الشراكات مع دول الخليج للعمل معاً في مواجهة نتائج الاحتباس. وفي هذا السياق، أشار إلى وجود «فرصة استثنائية اليوم» من أجل العمل مع الدول الخليجية التي «تمتلك الثروات الطبيعية وأيضاً المصادر المالية» من أجل التوجه نحو الاقتصاد الأخضر.
وتوقف الوزير الفرنسي عند عاملين رئيسيين متغيرين: الأول، نهاية العولمة التي كانت تتم على حساب الإنسان؛ أي من غير التنبه لتأثيراتها المضرة بالبيئة. والثاني، تسارع ارتفاع الحرارة، الذي يعني تهديد الحياة على الأرض والإضرار بالمصالح الاقتصادية وضرب الاستقرار السياسي، والهجرات والتصحر والنزاعات، وخلاصته أن كافة هذه الظواهر والعوامل «تدفعنا إلى التعاون مع الدول الخليجية».
لم يفت الوزير الفرنسي الإشارة إلى التماثل بين استراتيجية بلاده واستراتيجية دول الخليج، وإلى الإنجازات التي حققتها بعض دوله، ومنها السعودية، من خلال مشروعها لإنتاج «الهيدروجين الأخضر». من هنا، فقد دعا إلى التعاون وإقامة الشراكات في هذا القطاع، ولكن أيضاً في الاستخدام السلمي للطاقة النووية والتكنولوجيات الجديدة، وخلاصته أن بلاده تسعى لـ«شراكات شاملة» مع شركائها الخليجيين.
وهذا بالضبط ما دعا إليه وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي بندر إبراهيم الخريف، الذي قال بلغة بالغة الصراحة بعد أن شرح مشاريع وزارته التحديثية: «نحن لا نريد أن نبقى في علاقة استيراد واستهلاك لما يصنع في الخارج، ولسنا بحاجة لأموال كي تستثمر في اقتصادنا. نحن نريد شراكات تمكننا من تملك التكنولوجيات، وتطوير وتعزيز صناعاتنا بحيث لا نبقى فقط مستهلكين». وأضاف الوزير السعودي: «ثمة فرص حقيقية لشراكات من هذا النوع، ونحن من جهتنا مستعدون لها. تعالوا إلينا لكي تروا كيف نعمل وما ننتظره من الاستثمارات الخارجية».
ووفق المسؤول السعودي، فإن السعودية ودول الخليج الأخرى يمكن أن تتحول إلى «طرف فاعل في الاقتصاد الدولي»، وإن الدول المذكورة «لم تعد فقط مصدراً للبترول والغاز، بل هي جهة مشاركة في المسائل العالمية»، كما أنها «تحولت إلى شركاء من أجل إيجاد الحلول لمشاكل اليوم والغد».
وحرص الوزير السعودي على تأكيد أن استراتيجية الرياض «تأخذ بعين الاعتبار مصالح البلاد الاقتصادية… إلا أنها أيضاً تهتم بالتحديات الاقتصادية الدولية، وبالاقتصاد عديم الكربون»؛ أي الاقتصاد الأخضر، وخلاصته أن العلاقات مع السعودية «يتعين أن تتغير». وسارع لوران سان مارتين، المدير العام لـ«بيزنس فرنس» إلى التأكيد على الحاجة للذهاب في هذه السبيل، مشدداً على التحديات المشتركة التي تواجه الطرفين.
من الصعوبة بمكان تلخيص مضامين يوم كامل من المناقشات والمداخلات للمشاركين الذين بلغ عددهم تسعمائة، منهم 350 وفدوا من البلدان الخليجية. وكان واضحاً أن كافة القطاعات ممثلة في المنتدى، والحضور اللافت الفرنسي غير المقتصر على الرسميين والشركات الكبرى الموجودة في الخليج منذ عقود، بل سعت للحضور الشركات المتوسطة وبعض الشركات الصغيرة. وحث سان مارتين مواطنيه بدعوتهم إلى الذهاب إلى الخليج متسلحين بمهاراتهم وبالصورة الجيدة التي تتمتع بها فرنسا. بيد أنه نبههم من «المنافسة القوية» متعددة المصادر، وأهمها من الصين التي تنشط على كافة الصعد السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاستثمارية.
وفي مسعى منه لاجتذاب الاستثمارات الخليجية المباشرة في الاقتصاد الفرنسي، التي تفيد بعض الأرقام غير الشاملة بأنها، حتى عام 2021، بقيت عند حاجز الـ8.5 مليار يورو؛ فقد نوّه بتحول فرنسا إلى قطب جاذب للاستثمارات في السنوات الأربع الماضية بفضل البيئة الاستثمارية التي نجحت حكومات الرئيس ماكرون في توفيرها. وجاء الرد عليه من أمين عام مجلس التعاون الخليجي جاسم محمد البديوي الذي لفت النظر إلى صعوبتين تخصان فرنسا: الأولى متمثلة بما سماه «الغموض» في كيفية تعاطي فرنسا مع الاستثمارات الخليجية، والثانية صعوبة الحصول على تأشيرات «شينغن» للدخول إلى الأراضي الفرنسية، متمنياً إزالتهما معاً. كذلك تساءل البديوي عن تأخير إقرار اتفاقية التبادل الحر بين مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي. وجاء الرد عليه من مديرة دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الفرنسية آن غيغين التي أكدت أن باريس «منخرطة في بناء شراكة استراتيجية شاملة مع كل دول مجلس التعاون»، كما أنها «تدفع باتجاه شراكة جديدة بين مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي».