منصة المصرف المركزي: الانتقال من تثبيت سعر الصرف الى تحريره؟

قبل الحرب اللبنانية وحتى العام 1990 كان لبنان يعتمد نظام القطع المَرن، أي أنّ السوق كان يحدد سعر الصرف وفق العرض والطلب للعملة الوطنية إزاء العملات الأجنبية. ومع مطلع التسعينات عمل المصرف المركزي على الضبط التدريجي «الزاحف» لسعر الصرف حتى اعتماد الربط الثابت لليرة تجاه الدولار منذ عام 1997 على أساس سعر وسطي 1507.5 ليرات للدولار الواحد مع هامش 1501-1514، قبل أن تنفجر الأزمة الاقتصادية عام 2019 وتترجم بظهور فوضى سوق القطع الموازي. اليوم، يحاول الجهاز المصرفي إعادة ضبط الأوضاع من خلال منصة سعر الصرف تعتمد السعر الأقرب للسوق والمتحرّك وفق حاجاته بما يعكس تمهيداً للعودة الى النظام المَرن.

إلا أن الربط الثابت لليرة بالدولار وعلى أساس سعر صرف يرتكز بشكل أساسي على التدخّل المستمر للمصرف المركزي في السوق لضبط التوازن بين العرض والطلب من خلال استخدام إحتياطاته بالعملات الأجنبية، ما يتطلّب الحرص الدائم على تدفّق العملات الأجنبية والمحافظة على فائض في ميزان المدفوعات.

وقد تبيّن الضغط على الموجودات الخارجية للمصرف المركزي ومجمل الجهاز المصرفي تحديداً مع تراجع هذه الموجودات بالمقارنة مع زيادة دولرة الودائع المصرفية، وما كانت «الهندسات المالية» التي تمكّنت من استقطاب دولارات من الخارج للمشاركة بها إلّا لتؤمّن شراء الوقت بانتظار إصلاحات لم تحصل، إن لجهة تخفيض خدمة الدين التي تكون على الأوروبوند أقل فوائد مما هي على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو لجهة إعادة انتظام الدورة الإقتصادية وتصحيح الخلل في الميزان الخارجي باتجاه إعادة اجتذاب مصادر العملات الأجنبية (السياحة، الإستثمار، التوظيف المالي…).

إلّا أن نجاح العودة عن ربط عملة وطنية بعملة أجنبية وإعادة تحرير تسعيرها في السوق بعد فترة تثبيت وتدخّل مركزي في سوق القطع له شروط بارزة، تبدأ بتأمين التوقيت المناسب المتزامن مع صدمة إيجابية تجعل من هذا الخيار نتيجة تلقائية مطمئنة الى ثبات سعر الصرف من دون الحاجة لتثبيته بتدخلات منتظمة في سوق القطع. ولا تنتهي بتوفّر عوامل مساعدة من مؤشرات اقتصادية مستقرّة تسمح بإعادة التعويم السلس من دون إثارة أي قلق أو بلبلة في الأسواق ومن دون إفساح مجال للمضاربة أو التلاعب بالأسعار لتسجيل الأرباح من فروقات العملة والتأثير الإقتصادي والنفسي من تقلّب التوقّعات.

ويتطلب تطبيق نظام سعر الصرف المرن وجود سوق صرف أجنبي يتسم بالسيولة الكافية والفعالية للسماح لسعر الصرف بالاستجابة لقوى السوق، ويحد من عدد ومدة فترات التقلب المفرط والانحرافات عن سعر الصرف المتوازن (المعدل الذي يتماشى مع الأساسيات الاقتصادية للبلد).

بشكل عام، يتألف سوق القطع من سوق المصارف حيث تتم عمليات التداول الأساسية بين ممثلي الوسطاء المعتمدين (عادة المصارف والمؤسسات المالية الأخرى) مع بعضهم البعض ومع سوق التجزئة حيث يجري المكلّفون المعتمدون المعاملات مع العملاء النهائيين، مثل الأسَر والشركات.

يبقى القول انّ الهدف الرئيسي للسياسة النقدية لأي بلد يكمن في التحكم في السيولة النقدية للمحتفظة على قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية، إن لجهة ضبط التضخّم أو لجهة استقرار سعر الصرف بما ينسجم مع مستوى مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية في البلد. وقد أدت صعوبة تطوير ربط اسمي بديل موثوق به للعديد من البلدان إلى الابتعاد ببطء عن ربط سعر الصرف من خلال اعتماد نظام زاحف كنظام وسيط أثناء انتقالها إلى ربط اسمي آخر، أو التعويم التدريجي… فهل يكون لبنان على خطى العودة الآمنة نحو سعر الصرف المَرن بأقل بلبلة في الأسواق في ظل أشد الأزمات الاقتصادية التي يشهدها لبنان؟ وأي مدى زمني مرتقب لبدء تلمّس النتائج؟

مصدرجريدة الجمهورية - د. سهام رزق الله
المادة السابقةلغز الـ16 مليار دولار في مصرف لبنان
المقالة القادمةالقطاع المطعمي بلا عشاء… والتصدير ماشي