نادى حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري اليوم بـ”المحاسبة من خلال القضاء”، كسبيل لإخراج لبنان من أزمته الاقتصادية العميقة، بالإضافة إلى وضع خطة واضحة لمعالجة أموال المودعين وإعادة بناء الاقتصاد، من خلال إعادة تثبيت القطاع المصرفي، وأخيراً إعادة هيكلة الدولة وبناء أجهزتها.
موقف منصوري الذي أطلقه امس في افتتاح “ملتقى الأمن الاقتصادي العربي”، بدا كموقف السائح الذي يزور البلد للمرة الأولى، يسمع بجرائم مالية مُرتكبة، فيقول إن على القضاء القيام بالمحاسبة. وكأن منصوري لا يعلم وضع القضاء اللبناني، ورحلة تواطؤه مع الإدارة السابقة لمصرف لبنان والتي كان منصوري أيضاً جزءاً منها.
تخاذل عن المحاسبة
وإذا ما سلّمنا جدلاً بتعاون ونزاهة القضاء اللبناني، وتغاضينا عن تأمينه الحماية للحاكم السابق رياض سلامة، المتهم بجرائم متعددة، بينها تبييض أموال وهدر المال العام والإثراء غير المشروع، لا بد من طرح سؤال عن مساعي منصوري لفتح ملفات مصرف لبنان أمام القضاء.
وبعيداً عن شعبوية الحاكم الجديد، وإعلانه أكثر من مرة عن تعاونه مع القضاء اللبناني، ثمة أسئلة لا بد من طرحها، هل ادعى منصوري على أي من المشتبه بارتكاباتهم سابقاً؟ هل ادعى منصوري باسم مصرف لبنان على كل من أتى على ذكره كمتورط بهدر أموال المودعين واستغلال المال العام في تقريري الفاريز أند مارسال وشركة كرول للاستشارات المالية؟ الجواب قطعاً لا.
وليس تقرير شركة كرول سوى جزء من ارتكابات الإدارة السابقة لمصرف لبنان. فالتقرير واضح لجهة تمرير صفقات بعمولات خيالية مشبوهة بين مصرف لبنان وشركة اوبتيموم إنفست بين عامي 2015 و2018 تصل إلى نحو 8 مليارات دولار، كان سلامة قد أعدها بموجب “هندسات” لصالح الشركة. ألا يستحق هكذا تقرير فتح الملف أمام القضاء اللبناني وادعاء مصرف لبنان بشكل مباشر على كل من وردت أسماؤهم في التقرير؟
ثم كيف ينادي منصوري بالمحاسبة من خلال القضاء، وهو المتغاضي وربما العاجز عن ممارسة صلاحياته بتطبيق المادة 206 من قانون النقد والتسليف، التي تعطيه حق الادعاء مباشرة لحماية المال العام وأموال المودعين؟
لفلفة القضايا السابقة
يحاول منصوري توجيه البوصلة نحو نظرية إهدار الودائع على تمويل الدولة. من هنا قال في المؤتمر اليوم إن أهم مفاعيل وقف تمويل الدولة من الاحتياطات الاجنبية هو إرساء استقلالية المصرف المركزي وإعادته لعمله الأساسي ولدوره في تأمين الاستقرار النقدي، “ولتحقيق هذا الاستقرار يستخدم مصرف لبنان الأداة الوحيدة المتبقية لديه، وهي السيطرة على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية وعدم ضخّ الدولار إلاّ من خلال الدولة، وخلق نوع من التوازن بين الاقتصاد المدولر والاقتصاد بالليرة اللبنانية”. لافتاً إلى أنه بهذه الآليات استطاع المصرف المركزي أن يزيد احتياطاته بالعملة الأجبنية مليار دولار أميركي.
لا ينكر خبراء الاقتصاد والمال صحة نظرية إهدار الودائع على تمويل الدولة “جزئياً”، غير أن العديد منهم يرى أنه ما لم تُفتح ملفات مصرف لبنان بكاملها، والتحقيق فيها، فلن يتم تحديد المسؤوليات وتوزيع الخسائر بشفافية وعدالة. وبالتالي، لن يتم تحقيق أي إصلاح حقيقي. لا بل يذهب العديد من الخبراء أبعد من ذلك، فيتهمون منصوري بتعمّده لفلفة القضايا المرتبطة بالحاكم السابق سلامة وإدارته في مصرف لبنان.
ويرى خبراء أن تكتم منصوري عن ارتكابات مصرف لبنان السابقة، وعن حقيقة مخاطرة المصارف بأموال الناس، ووقوفه موقف المتفرج، لا يخدم سوى منظومة الفساد المتشابكة من سياسيين ومصرفيين وقضاة.