في 10 حزيران الحالي، صدر بيان من إحدى الجمعيّات التي تتحدّث بإسم المودعين، ليشير إلى أنّ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أكّد لوفد الجمعيّة أنّه “لا يعد الخطط الاقتصاديّة”، التي تبقى من مسؤوليّة الحكومة والبرلمان. وأي كلام عن خطط في وسائل الإعلام، “لا يمت للحقيقة بصلة”. كان ذلك النفي تطمينًا من منصوري، بعدما سرّبت مصادر المصرف المركزي نفسه (راجع “المدن”) تفاصيل خطّة يجري العمل عليها في المصرف، بموازاة خطّة أخرى يجري تعديلها من قبل فريق العمل الحكومي المختص. بين التسريبات والنفي، ظلّ منصوري يدير اللعبة بمكر: يسرّب مقاربته، يجس النبض وردود العمل، ثم يسحب يده أمام المودعين، وينفي.
ما لم تعرفه جمعيّات المودعين، ستعلمه لاحقًا علم اليقين جمعيّة المصارف، التي تنعم -كما يبدو من نشرتها الشهريّة- بشهر عسل طويل وحالم مع الحاكم بالإنابة.
افتحوا افتتاحيّة التقرير الشهري للجمعيّة المنشورة يوم أمس الإثنين، وستجدون خطّة المركزي كما نشرتها “المدن” في 10 حزيران الحالي، أي في اليوم نفسه الذي نفى فيه منصوري وجود الخطّة، أمام المودعين. “النقاط المطروحة من قبل السلطات النقديّة”، كما تصفها جمعيّة المصارف، كانت “مطروحة للنقاش” بين الجمعيّة والمصرف المركزي. لكنّها لم تكن كذلك مع المودعين، الذين لم يحصلوا من منصوري سوى على نفي صارم وجاف. أمّا الرأي العام، فسيكون عليه انتظار تسريبات المصادر والمقرّبين وحاشية الخبراء وغيرها من موروثات حقبة رياض سلامة.
إعادة تدوير الخطّة الحكوميّة
ما قام به منصوري مع المودعين والرأي العام، مشابه لما فعله مع نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي قبل أشهر. لمن يذكر، أعدّ مصرف لبنان يومها المقاربات الأساسيّة لخطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وما إن تم طرح المشروع على طاولة مجلس الوزراء حتّى سحب منصوري يده من الخطّة. بل ونفى أن يكون قد تبنّى المقاربات أو الأرقام التي تقوم عليها. وبشكل عام، لم يدخل منصوري حتّى في مناقشة المشروع أمام الوزراء، لتعديله أو تقويمه. ثم سقط المشروع. بسيطة، سعادة الشامي ليس جمعيّة المصارف، وزوّاره المودعون ليسوا كبار المصرفيين النافذين، القادرين على إسقاط أو تعويم الخطط، وتحريك الأحزاب السياسيّة والكتل النيابيّة.
نعود إلى نشرة جمعيّة المصارف، طالما أنّها امتلكت الخبر اليقين. النقاط المطروحة من قبل المصرف المركزي، للتعامل مع أزمة الودائع، تقوم أولًا على ضرورة التأكّد من مصدر الأموال وإثباته. ثم تقوم على حسم الأرباح المحقّقة بطرق غير منطقيّة، في إشارة إلى الفوائد والعوائد التي تتجاوز نسبتها الحد المعقول. كما تقوم على توفير سيولة فوريّة للمودعين الأكثر حاجة، لمنحهم القدرة على التعامل مع الاحتياجات الأساسيّة. وفي ذلك ما يتماهى مع فكرة ضمان الودائع إلى أقصى حد، بما يسمح بتسديد ودائع أصحاب الحسابات الصغيرة والمتوسّطة أولًا.
حسنًا، عند هذه النقطة، ما يطرحه منصوري ليس سوى تعداد للمقاربات العامّة والعناوين العريضة التي قامت عليها الخطّة الحكوميّة، التي جرى طرحها، ثم إسقاطها، بعد تبرّؤ مصرف لبنان منها. ما يطرحه منصوري هنا، هو الخطّة التي أعدها مصرف لبنان بنفسه في وقت سابق، قبل أن يغسل يده منها أمام الرأي العام ومجلس الوزراء. هي إعادة تدوير للخطّة، مع بعض التغيير في العناوين والمفردات. ومن تكلّم مع وسيم منصوري، في محادثات جديّة (وهذا لا يتم مع فصائل المودعين طبعًا)، يدرك أن منهجيّته في العادة لا تبتعد كثيرًا عن منهجيّة صندوق النقد والتفاهم المبدئي المعقود معه.
تفاؤل المصارف بعبارة خطيرة حمّالة أوجه
فضلًا عن إعادة تدوير الخطّة الحكوميّة، التي أثارت حفيظة المصارف سابقًا، ما الجديد الذي يطرحه منصوري اليوم، حتّى ينال بركة وتفاؤل جمعيّة المصارف؟ الإضافة الجديّة، هي عبارة خطيرة حمّالة أوجه، من أربع كلمات: التمييز بين مودع ومستثمر، كما ورد في افتتاحيّة نشرة جمعيّة المصارف أمس، وكما تم تسريبها منذ فترة من مصادر مصرف لبنان.
ولمن يفهم العبارة: منصوري يتحدّث هنا عن كبار المودعين، الذين تتجاوز قيمة حساباتهم السقف المضمون. وهو يميّزهم هنا بوصفهم مستثمرين، سينالون أدوات ماليّة يفهمونها ويتداولون بها. ما هي هذه الأدوات؟ تتعدّد التفسيرات: يمكن أن يتحوّلوا إلى مساهمين في المصارف، أو شركاء في صندوق استرداد الودائع، أو أصحاب سندات صفريّة، تمامًا كما تنص خطّة الحكومة. لكن من ناحية أخرى، يمكن أن يتحوّلوا إلى شركاء في صندوق مربوط بأصول سياديّة، تمامًا كما تتمنّى –وتطالب منذ العام 2020- جمعيّة المصارف.
هكذا، وكعادته، عاد منصوري إلى المساحة الرماديّة. في عبارته هذه ما يمكن أن يروي ظمأ المصارف بتفسير معيّن، وما يمكن أن يتناسب مع الخطّة الحكوميّة المتفق عليها مع صندوق وفق تفسير آخر. وفي جميع الحالات، هو أمام المودعين مجرّد متفرّج ينتظر قيام الحكومة والنوّاب بدورهم في وضع المعالجات. وبالنسبة للمصارف، يمكن أن تبقى الأمور معلّقة على هذا النحو، طالما أنّها لن تتجرّع الكأس المرّ، أي عمليّة إعادة الهيكلة الشاملة التي يطلبها صندوق النقد، والتي تبدأ بشطب الرساميل أولًا قبل إعادة الرسملة.
العودة إلى قدسيّة الودائع
أمسكت جمعيّة المصارف برأس الخيط في حديث منصوري حول “الاستثمار”، وعادت في افتتاحيّتها إلى نغمتها المعتادة: قدسيّة الودائع. ومن يعرف خلفيّة الشعار، منذ العام 2020، يُدرك أنّه العنوان المفضّل الذي يمكن التلطّي خلفه، لرفض عمليّة إعادة الهيكلة الشاملة. أن تقول بقدسيّة الودائع، يعني أن ترفض فتح الدفاتر والعودة للوراء، لتمييزها والبحث عن مصدر الفجوة الموجودة، ونوعيّة المستفيدين منها، ووجهة أموالهم النهائيّة في الخارج. والشعار يعني أيضًا، أن لا تعيد الودائع، طالما أن الجمعيّة تعرف أن حجم الفجوة غير قابل للسداد من موجوداتها أو موجودات مصرف لبنان، أو حتّى الأصول والإيرادات العامّة التي تطالب بها. نكرّر ذلك دائمًا، لكنّه بالفعل التوصيف الأدق لهذا الشعار: هو شعار أجوف وفارغ وانتهازي، كما وصفه البنك الدولي.
بين طريق قدسيّة الودائع والسطو على الأصول العامّة ورفض المحاسبة والمساءلة حول مصدر الخسائر، وطريق إعادة الهيكلة وتصفية الخسائر بمعايير واضحة وفق شروط صندوق النقد، ثمّة خيار نهائي يجب أن يُتخذ. الطبقة السياسيّة أخذت هذا الخيار طبعًا، بعرقلتها جميع خطط إعادة الهيكلة السابقة، وفقًا لتعليمات جمعيّة المصارف، التي جاءت في بعض الأحيان بلغة الأوامر والرسائل المكتوبة. منصوري ما زال يلعب على الحبال، فلا هو تبنّى خطّة الحكومة، ولا خطّة المصارف، ولم يعد المودعين بأكثر من الكلام الإنشائي العام. هو يبقي الخيارات مفتوحة، لكنّه يبتعد –في الوقت نفسه- عن اتخاذ أي قرار.
لكن في وقت ما، سيضطر منصوري إلى البوح بما في صدره. سيضطر لاتخاذ قرار ما.