لاءات ثلاث رفعها حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري، في مؤتمر صحافي لم يعتد اللبنانيون على متابعة وقائعه: لا للمسّ بالاحتياطي، لا لتغطية عجز الموازنة العامة عبر إقراض الحكومة لا بالدولار ولا بالليرة، ولا لطبع الليرة لتغطية نفقات الدولة. في سياسة هي النقيض كلياً لسياسية رياض سلامة طوال ثلاثة عقود.
لا يُحسد منصوري على موقعه. بلغ المنصب النقدي الأول في لحظة إفلاس وعجز سيفرد لهما التاريخ فصولاً من سرد التفاصيل المشوقة والمبكية في آن معاً، حين سيقول إنّ منظومة سياسية – مالية – قضائية – أمنية نهبت شعباً بكامله من دون أن يرفّ لها عين، واذا ما أتيح لها أن تمد يدها إلى جيوب اللبنانيين لتسحب ما تبقى من دولارات طازجة، فلن تقصّر.
لا دولارات في المصرف المركزي كي يمارس الحاكم المهمة التي دأب عليها سلامة في الصرف من أموال المودعين، فيما طبع الليرات سيزيد من عمق الأزمة ويعقدها. ولهذا يحتمي منصوري وراء القانون، ويسير بجانبه على «المسطرة». هاتوا إصلاحات وخذوا نقداً. أمّا غير ذلك، «فدبروا راسكن». لكن حال العجز هذه، هي نفسها التي تقي الحاكم شرّ الوقوع في خطيئة الاستمرار في سياسات السلف «المتواري عن الأنظار». لا يملك «قرشاً» كي يلبي طلبات القوى السياسية التي لم تحاول يوماً تدجين جشعها أو تهذبه، وها هي اليوم تصرف من اللحم الحيّ في معركة صمودها ولكي لا تعلن استسلامها.
حتى اللحظة، يتصرف الحاكم بالإنابة على نحو مختلف كلياً عن سلامة. سارع إلى قطع حبل السرّة حتى قبل تلقفه كرة النار. حين توجّه و»رفاقه» نواب الحاكم إلى مجلس النواب، حاول الأربعة تقديم نموذج مختلف، متسلحين بخطة اصلاحية، لا بدّ منها مهما طال الزمن، تساعدهم على عبور مرحلة «الموت السريري» للمالية العامة بأقل أضرار ممكنة.
طبعاً، ما يقوم به منصوري من تصويب للسياسات النقدية، كان يؤمل أن يكون موضع رصد واضح للعيان من جانب اللبنانيين حين كان خلف الكواليس في المجلس المركزي كنائب أول، ولو أنّ تقرير «ألفاريز أند مارشال» أنصفه بعض الشيء حين ذكر أن «النائب الاول للحاكم كان الاكثر مشاكسة لسلامة». وها هو في مؤتمره الصحافي يعود إلى ألف باء الإصلاح: «لا بد من أن أدق ناقوس الخطر وأن أحذر أن المراوحة الحالية والتأخير في اقرار القوانين الاصلاحية يؤديان إلى تنامي الاقتصاد النقدي ما يؤثر سلباً على الاستقرار الاقتصادي السليم والمستدام ويعرّض لبنان لمخاطر عزله عن النظام المالي الدولي، ولهذا أثر سلبي كبير على الإقتصاد وحياة المواطن ومستقبل القطاع المصرفي».
في كلّ ما يقوم به «الحاكم» يُحرج الطبقة السياسية، وتحديداً تلك القابضة على الحكم. سواء أعجبها ما يفعله أم لم يعجبها، والأرجح الثانية، فهي مربكة في مواجهته، وعاجزة عن الاعتراض على سلوكه وأدائه وسياساته، لكونه ينطلق من حقائق مالية ووقائع قانونية، تعطيه الحق بعدم الصرف عبر المس بالايداعات المالية، ليكتفي بـ»إنجاز» تأمين رواتب القطاع العام بالدولار لحوالى 400 ألف عائلة وتأمين حاجات القوى العسكرية والأمنية، من دون خسائر ولا أكلاف… ولو أنّ هناك من يصنّف أولوياته في الخانة السياسية بعدما استثنت مثلاً فيول الكهرباء.
لكن القوى السياسية ستواجه صعوبة في عدم التجاوب مع طلبات الحاكم بالإنابة، واستحالة اقناعها الرأي العام بأنها غير مقصّرة بواجباتها في وضع قوانين إصلاحية، والتي تؤجلها منذ أكثر من ثلاث سنوات، وما زالت، بحجة انتظار انتخاب رئيس للجمهورية.
ومع ذلك، تتواصل هذه الأطراف «بالمفرق» مع منصوري، وقد جرت اجتماعات عدة في الأيام الماضية، أعرب خلالها حاكم المصرف بالإنابة عن استعداده للمساعدة في تحديد أطر المصلحة المالية العامة في التشريعات الاصلاحية، التي لم تعد ترفاً.
كما يتبيّن أنّ أداء الحاكم بالإنابة موضع رصد تفصيلي من جانب الدول المعنية بالملف اللبناني، لا سيّما في ما خصّ خطّه البياني الإصلاحي المطلوب دولياً، على نحو يشكل تقاطعاً، والأرجح أنّه مقصود، مع الأجندة الدولية الداعية لتحقيق هذه الإصلاحات. ولعل هذا المسار هو الذي قد يسّهل عليه عقد لقاءات في الرياض على هامش مشاركته في أعمال مؤتمر المصارف العربية.
في إطلالته الثانية، التي كانت بمثابة جردة حساب لشهر آب، تظهر أول ملامح سلوك منصوري وكأنّه يسعى إلى تكريس استراتيجية وتكتيك جديدين. لن يسمح بتحمل مسؤولية ليست من واجباته. والأرجح أنّ شهر ايلول سيكون أيضاً في مساحة الأمان النسبي. لكن من يضمن بعدها بغياب السياسات الاصلاحية؟
ستجد الحكومة ومعها القوى السياسية أنّها أمام واقع جديد لا يحتمل التسويف، لأنّ الهروب من اقرار الاصلاحات يعني:
– ضرب الاستقرار النقدي القائم ولو أنّه مصطنع وهشّ.
– اهتزاز الأمن نتيجة عدم تلبية حاجات القوى العسكرية والأمنية.
– فقدان الثقة التامة بأي امكانية للبدء بمسار التعافي المالي.
– خروج لبنان من النظام المالي العالمي نتيجة الاعتماد على سوق «الكاش».
وعليه، يقوم منصوري بتعرية القوى السياسية أمام اللبنانيين والمجتمع الدولي، رافضاً تغطية تقصيرهم، لأنّ لا امكانات مالية لديه ولا قدرات للمصرف المركزي، بسبب قراره عدم المس بأموال المودعين أو المساهمة في زيادة التضخّم عبر طباعة أو ضخ الليرة.