البقاء على قيد الحياة حتى تأتي التسوية من مكان ما. هذا هو الهدف الذي تعمل قوى السلطة لبلوغه. وإذ أمّنت استمرار إمساكها بالبلد، مدعومة بغطاء إقليمي، ودولي على الأرجح، فإنّها تخطّط للحصول على المال كي لا يسقط البلد الذي جففت موارده وموجوداته، فتسقط معه. ولكن من أين لها ذلك؟
منذ انكشاف الانهيار المالي في خريف العام 2019، توحي قوى السلطة بأنّها تبذل كل جهد للخروج من الأزمة. وعلى الأخص، هي تفاوض صندوق النقد الدولي على خطة لتمويل عملية النهوض.
طبعاً، منظومة السلطة تفضّل الحصول على المال السهل من الدول التي اعتادت أن تزودها بالمال، وفي الطليعة دول الخليج العربي، على أن تأتي التغطية السياسية من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. لكنها لا تحبذ الرضوخ لالتزامات وشروط يفرضها صندوق النقد. فأي التزام من هذا النوع سيضعها في موقع «الإصلاح الاضطراري» الذي تتجنّبه.
جرّبت هذه المنظومة عشية مأزق تشرين الأول أن تلعب على خط فرنسا- السعودية- الإمارات، لعلها تحصل على دعم يؤخّر الانهيار. لكن «الفيتو» الأميركي كان في المرصاد. وخلال الأزمة، تكرّرت المحاولات، فجاء الجواب دائماً: المدخل هو التزام خطة إصلاحية واتفاق مع صندوق النقد.
يدرك أركان السلطة، والأقوى فيهم «حزب الله»، أنّ قرار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هو في واشنطن أساساً. ويعرف «الحزب» أنّ الصندوق هو إحدى أدوات الضغط الأميركية عبر العالم. ولذلك، تفضّل المنظومة تجنّب الوقوع في أحضانه. لكن للضرورة أحكاماً، ما دام الصندوق هو الممر الإجباري للمساعدات.
انتقلت منظومة السلطة إلى خطة بديلة: تتصل بالصندوق وتفاوضه على خطة معينة، وعندما يتعب من المفاوضة ويدخل الوسطاء على الخط، يصبح مستعداً للقبول بحدّ أدنى من الشروط، أي ببنود إصلاحية غير موثوق فيها أو صورية. وحينذاك، يتمّ الحصول على المال من الصندوق، بلا ثمن مدفوع. ولذلك، وقّعت السلطة اتفاقاً مبدئياً معه، على مستوى الموظفين.
لكن الصندوق ما زال ينتظر التزاماً جدّياً بخطة حقيقية قبل تقديم الدعم. وهذا الالتزام يبدو مستحيلاً، لأنّ الإصلاح الحقيقي في لبنان يعني انكشاف المنظومة السياسية- المالية الممسكة بالقرار وتجفيف مصادر قوتها، ما يقود إلى سقوطها. وعند هذه النقطة، تستمر المراوحة.
في كواليس القوى المعنية داخل السلطة، الكلام الذي يُقال يكشف خفايا المفاوضات مع الصندوق ويفسّر حقيقة تعثرها: لا نريد الارتهان للصندوق، أي للأميركيين، مقابل قروض لا تتجاوز قيمتها 3 مليارات دولار، على مدى 4 سنوات، مقرونة برقابة صارمة على كل شيء نقوم به في الداخل!
وما يؤكّد هذا الكلام هو أنّ الطاقم السياسي- المالي الممسك بالسلطة يستهلك في ثلاثة أشهر أو أربعة، أكثر من مجمل ما يمكن أن يحصل عليه من الصندوق على مدى سنوات. فاحتياط مصرف لبنان من العملات الصعبة كان يزيد على 38 مليار دولار قبل 17 تشرين الأول 2019، وقد بات اليوم أقل من 10 مليارات. ما يعني أنّ 28 ملياراً أُهدرت خلال 3 أعوام ونصف العام، بمعدل 8 مليارات سنوياً، عدا المبالغ التي تمّ الحصول عليها من الخارج خلال هذه الفترة، تحت عناوين النازحين السوريين ومواجهة «الكورونا» وحقوق السحب الخاصة من صندوق النقد.
في العمق، وعلى رغم كل هذا النزف، ترفض قوى السلطة إبرام أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتصرّ على المماطلة انتظاراً لتسوية ستأتي من مكان ما، في لحظة ما. وهي ترفض اتخاذ أي تدبير إصلاحي حقيقي، ولو حتى إقرار الموازنة في مواعيدها وتوحيد سعر صرف العملة الوطنية.
وثمة من يقول داخل السلطة: لقد اقترب الفرج، والتسوية الإقليمية ستُترجم داخلياً وتنتهي الأزمة. ولضرورات سياسية ستعود المساعدات التي توقفت للضرورات إيّاها قبل سنوات، أي مساعدات مؤتمر «سيدر» في العام 2018. وحينذاك لن نحتاج إلى الصندوق ولن تلزمنا أمواله. نحن لا نريد منه قرشاً واحداً، عندما تعود إلينا المساعدات العربية. ونعتقد أنّ العرب، كما سيشاركون في إعادة إعمار سوريا، كذلك سيساهمون مجدداً في إخراج لبنان من الأزمة، فنعود إلى ما كنا عليه قبل تشرين 2019.
وحتى «يوم القيامة» ذاك، وجدت منظومة السياسة والمال طريقة بسيطة لتمويل نفسها من الداخل. فهي في موازاة استهلاك ما تبقّى من الودائع والتصرّف بالأموال التي تحصل عليها، تواصل الاستثمار في أموال المغتربين والسياح، في مواسم الصيف والشتاء، وفي الأعياد.
واليوم، تراهن المنظومة على تدفق ما بين 8 مليارات دولار و10 مليارات خلال موسم الصيف الذي تستعد له ولأمواله بكل جوارحها. وهذه الأموال يمكن أن تبقي البلد واقفاً، حتى التسوية التي تعتقد السلطة أنّها ستتحقق هذا العام، وستكون على قياسها، على رغم الاستحقاق الذي ينتظر مصرف لبنان، مطلع تموز، بانتهاء ولاية الحاكم.
في الانتظار، يشغل موظفو صندوق النقد أنفسهم بالأفكار الإصلاحية «الخلاّقة» مع الطاقم اللبناني. لكنهم «يتعذبون ع الفاضي». فالمنظومة «خلاّقة» أكثر منهم بكثير، بل هي طويلة التجربة وشديدة الاحتراف في مجال المال. وهي تراهن على أنّ المال سيأتيها بسهولة من مكان آخر، وبكميات أكبر.