تحت جفون المدن المتعبة، وبين أزقّة تئنّ من العوز والإهمال، تنتشر بؤر الخردة كأوكار سرّية لنشاط اقتصادي ضخم، لا يمرّ عبر دفاتر الدولة او رصد الجمارك إلا حين يُعبّأ في حاويات باتجاه المرافئ. مشهد يبدو للعين العابرة مجرد أكوام من الحديد الصدئ، وأسلاك محترقة، وأدوات تالفة، لكنه في الواقع شريان اقتصادي بديل، يدرّ مليارات الليرات سنوياً، وينمو على أطراف الفقر، ويغذّيه الإهمال الرسمي كما تغذّي النار الرماد.
هذه البؤر التي تتكاثر كالفطر السامّ، ليست مجرد نشاطات فردية لعاطلين من العمل يبحثون في النفايات. إنها اليوم شبكات متكاملة تبدأ بـ “المنقّبين”، وتصل إلى تجّار كبار محسوبين على أحزاب وذوي نفوذ، يتحكّمون بالأسعار، وبقنوات التصدير، ويقطفون الحصاد من دون أن يتركوا للدولة سوى الغبار والسموم. وعلى مرأى من الوزارات والبلديات، تحترق المواد البلاستيكية والكابلات الكهربائية لاستخراج النحاس والحديد، وتُرسل الى الخارج بغطاء شرعي ظاهري، الذي هو في الحقيقة مجرّد قناع يُخفي وراءه اقتصاداً موازياً بلا ضوابط.
لماذا تفتح “الديار” هذا الملف من جديد؟
الجواب بسيط: لأننا في بلد يكافح لتأمين عائدات لخزينته العامة، ولأن هذا القطاع الذي قد يُقدَّر حجمه بمئات ملايين الدولارات سنوياً، يمكن أن يتحوّل إلى مورد إنتاجي منظم، لو وُضعت له القوانين والرؤية. لأن كل طن من الخردة يُصدر بلا رقابة هو فرصة ضائعة على الخزينة، وكل حريق عشوائي لاستخراج معدن هو ضربة موجعة لصحة الناس وبيئتهم. كما أن السكوت عن هذا الملف بات أشبه بـ “شراكة” غير معلنة مع الفساد المقنّع، الذي يُهرّب موارد البلاد كما تُهرّب النفايات: بلا رقيب، ولا مساءلة، ولا شعور بالذنب.
شبكة تتغذّى من الفقر وتُدار من فوق
في ضوء كل ما تقدم، يبدأ المشهد من الشارع، حيث يتنقّل “المنقّبون” بين الحاويات وورش البناء، يجمعون كل ما يُمكن بيعه: أسلاك، بطاريات، أجهزة إلكترونية، أغطية مجار، وحتى أنابيب الكهرباء والمياه من الأبنية المهجورة. الوجهة التالية: ما يُعرف بـ “بؤر الحديد” المنتشرة في ضواحي بيروت، البقاع، طرابلس، ومناطق أخرى خارجة عن الرقابة. يذكر انه بتاريخ 10/04/2025 تم قطع الطرق في طرابلس احتجاجا على اقفال بؤر الحديد. وتشكل هذه المراكز القاعدة الأولى في سلسلة غير رسمية تمتدّ إلى تجّار الجملة الكبار، الذين يشترون الكميات المضغوطة بأسعار زهيدة، ثم يُصدّرونها إلى الخارج، حيث تُباع بأسعار تضاعف قيمتها.
التهريب باسم التدوير: دجاجة تبيض ذهباً!
في سياق متصل، تشير تقديرات اقتصادية شبه رسمية إلى أن لبنان كان يُصدّر ما بين 200 إلى 250 ألف طن من الخردة المعدنية سنوياً قبل الأزمة، وهو رقم انخفض قليلاً بعد 2019، لكنه لا يزال يشكّل مصدر أرباح خيالية لتجّار محدّدين. ويتراوح سعر الطن محلياً بين 200 و300 دولار، فيما يُباع في الخارج، لا سيما في تركيا والهند والصين، بما يصل إلى 600 دولار، وفقاً لأسعار السوق العالمية. وبهذا، يحقق التاجر الواحد هامش ربح يتخطى 100%، وسط غياب شبه كامل لأي رقابة ضريبية أو جمركية، حيث تُسجَّل الشحنات تحت بند عام وغامض”metal scrap”.
مستودعات داخل الأحياء… والتلوّث يصيب الجميع
من المؤكد ان الأخطر من كل ما ذكر، يتمثل في أن هذه البؤر لم تَعُد مقتصرة على المناطق الصناعية. كثير منها يتمركز داخل أحياء سكنية، حيث تُخزَّن الخردة وتُحرق الأسلاك لاستخراج النحاس، وسط دخان أسود كثيف يملأ الهواء. على سبيل المثال، منطقة برج حمود لا سيما المدخل الرئيسي لها، أيضا في النبعة وراس النبع ومداخل سن الفيل والكثير من المناطق المكتظة شعبيا. ومن الجدير بالذكر هنا ان عمليات الحرق وفصل النفايات، تُجرى دون أي ترخيص أو تدابير سلامة، وتُسبّب تلوّثاً بيئياً خطراً. ومع أن وزارة البيئة يُفترض بها التدخل، إلا أن صلاحياتها مشلولة، والبلديات تتغاضى، خصوصاً إذا كانت البؤر محمية من جهات حزبية أو نافذين محليين. ومثل كل شيء في لبنان، لا توجد أي إحصاءات رسمية عن الأثر الصحي لهذه النشاطات، لكن أطباء حذّروا عبر “الديار” من تزايد حالات الأمراض التنفسية والسرطانية لدى المواطنين القاطنين قرب هذه البؤر.
تجارة الملايين… بلا تنظيم ولا محاسبة
لا شك ان ما يثير الريبة أكثر، هو أن هذه التجارة التي تُقدَّر أرباحها بمئات ملايين الدولارات سنوياً، لا تخضع لأي تنظيم واضح. اذ لا تضع وزارة الاقتصاد تسعيرة أو آلية رقابة، ولا تفرض وزارة الصناعة ترخيصاً على المعامل التي تضغط وتُصدّر، ولا المديرية العامة للجمارك تُدقّق في المصدر والمحتوى. أما وزارة البيئة، فتكتفي ببيانات إعلامية عند وقوع كوارث. وفي هذا السياق، أشار خبير اقتصادي لـ “الديار” الى أن غياب الإطار التشريعي يُحوّل هذا القطاع إلى نموذج فاضح للاقتصاد الموازي، حيث تُهرَّب الخردة من دون حسيب، وتُفقد الدولة موارد ضخمة من الرسوم والضرائب.
حين تصبح الخردة سياسة!
في جميع الاحوال، ما يحصل في قطاع الخردة في لبنان ليس مجرد فوضى ناجمة عن غياب الدولة، بل هو انعكاس لبنية اقتصادية ريعية محمية بسياسات الزبائنية والمحسوبيات. تجارة تدرّ الملايين ولا تدخل منها ليرة واحدة إلى الخزينة، في بلدٍ يتوسّل القروض والمساعدات الدولية. وبينما يلهث المواطن لإعالة اسرته باللحم الحي، تُشحن الحاويات المعدنية يومياً إلى الخارج، وتُغلق ملفاتها على عتمة المستودعات، و”المحاسبة مؤجّلة حتى إشعار آخر”.
لذا، فتح هذا الملف ليس خياراً إعلامياً، بل ضرورة وطنية، لأن ما يُحرق في أحيائنا ليس فقط النحاس، بل ما تبقّى من صحتنا. وقد علمت “الديار” أن أحد “النكّيشة”، قصد مؤخراً إحدى بؤر الحديد في منطقة الجديدة، حيث باع كمية من المواد المجمّعة داخل أكياس تحتوي على أسلاك نحاسية، وأجزاء معدنية مفككة من أدوات كهربائية مستهلكة لقاء مبلغ قدره 12 مليون ليرة لبنانية، وهو رقم يسلّط الضوء على حجم الأرباح التي يمكن أن يجنيها الفرد من هذا القطاع غير الرسمي، رغم طبيعته العشوائية والهامشية. بينما تباع الكمية ذاتها لاحقاً بما يزيد على 300 دولار بعد فرزها وضغطها.
هذا الرقم، وإن بدا بسيطاً بلغة الدولار، يُعتبر كبيراً بالنسبة لشخص يعمل في التنقيب بين النفايات، مما يعكس اختلالات بنيوية في الاقتصاد اللبناني. فبينما تعجز شرائح واسعة من العمال النظاميين عن تأمين دخل كهذا خلال أسبوع كامل من العمل المرهق، يتمكن “نكّيش” من تحقيقه في يوم واحد، من دون ضريبة او رقابة، وبجهد قائم على استغلال ثغرات غياب الدولة.
اللافت أن هذه العملية لا تحصل في الخفاء، بل في بؤر باتت معروفة ومحمية بوقائع الأمر الواقع، حيث تتحوّل الخردة من سلعة ثانوية إلى مصدر دخل يومي، وتُدمَج لاحقاً في سلاسل تصدير يسيطر عليها عدد من كبار التجار، الذين يُراكمون الأرباح بالدولار النقدي.
ومع ذلك، ما يدعو للقلق هنا ليس فقط حجم السوق الموازي، بل أيضاً أن قطاع النكّيشة أصبح حلقة حيوية في شبكة اقتصادية غير رسمية، تتغذّى من الفوضى، وتُغذّيها بدورها. فالدولة لا تستفيد من هذه الدورة بأي شكل، لا عبر الضرائب، ولا من خلال تنظيم القطاع، بل تخسر موارد معدنية قابلة لإعادة التدوير، وتترك ملف النفايات مفتوحاً على مصراعيه للعبث والاستغلال.
في المحصلة، فإن بيع أكياس الخردة بـ 12 مليون ليرة هو رقم يحمل دلالة مزدوجة: من جهة، هو شهادة على مهارة الفقير في “ابتكار رزقه” وسط العجز، ومن جانب آخر، هو جرس إنذار عن اقتصاد الظل الذي يتمدّد يوماً بعد يوم، في ظل انكفاء الدولة وانهيار الرقابة والمؤسسات.
شهادة من داخل “الكار”
ويكشف عامل في بؤر الخردة “كنا نشتري بأبخس الأسعار ونبيع بأضعافها، والناس غير مدركين. معتبرا ان “خط-النبعة-برج حمود” منجم من الاستغلال والسرقة الموصوفة. ويضيف، “نأخذ من النكّيشة المواد المعدنية بمبالغ زهيدة، حيث يتراوح الكيس الصغير بين مليونين الى ثلاثة، حسب النوع والكمية، وأحياناً أقل إذا كان الشاب بحاجة الى المال فوراً. ونفرز الشوال نفسه ونبيعه للتاجر الكبير بثلاثة أضعاف، وهو بدوره يصدّره ويحقق ربحا منه عشرة أضعاف”.
ويقول: “منذ أسابيع تم جلب حمولة كبيرة من أغطية المجاري وقطع نحاس من منطقة ساحلية”.
المسؤولية تقاطعية!
وسط هذه المعطيات المتعلقة بانتشار بؤر الخردة والحديد العشوائية، تتقاطع مسؤوليات عدة جهات رسمية، ولكل منها ما يمكن أن تبرره حسب نطاق صلاحياتها. لذا، ينبغي على وزارة البيئة ان تحذر من التلوّث الناتج من الحرق العشوائي لاستخراج المعادن، اذ ان هذه الممارسات تُخلّف أضراراً بيئية وصحية جسيمة، خاصة في المناطق السكنية. في المقابل، على وزارة الصحة العامة، الربط بين هذه الظاهرة وتزايد الأمراض المزمنة في الأحياء المتضررة، والمطالبة بالحد من التلوّث الهوائي. اما البلديات، فتعتبر أن يديها مغلولتان بسبب ضعف الإمكانات، لكنها تتحمّل مسؤولية مباشرة في السماح أو التغاضي عن هذه البؤر بين المنازل. كما يمكن لقوى الأمن الداخلي أن تشير إلى ضرورة وجود قرارات رسمية من الجهات المختصة قبل تنفيذ أي مداهمة أو اغلاق. فعلى سبيل المثال، اثناء مراقبتنا لعمليات نقل الشوالات من قبل “النكيشة”، كانت تتم هذه العملية على مرأى من عناصر البلدية والدرك، لا سيما عند تقاطع مار مخايل النهر وبرج حمود وصولا الى الدورة. اما وزارة الصناعة، فيجب عليها منح التراخيص فقط للمؤسسات النظامية، والتحذير من الخلط بين المصانع القانونية والنشاطات غير المرخّصة. وتبقى مهمة الجمارك اللبنانية في مراقبة عمليات التصدير، وضبط محاولات التهريب أو التزوير في بيانات الشحن المرتبطة بالخردة.