من دون تمويل ولا تخطيط… كيف يدير لبنان استثماراته العامة؟

رغم تصدّر الحديث عن “النهوض الاقتصادي” و”إعادة الإعمار” غالبية اللقاءات الرسمية إن لم نقل جميعها، يغيب عن لبنان ما يُفترض أن يكون بديهياً في أي مشروع تعاف اقتصادي وهو إدارة متكاملة وفعالة للاستثمار العام. فالمشاريع الاستثمارية العامة لا تزال تُنفّذ في لبنان بطريقة عشوائية، في ظل غياب رؤية اقتصادية وطنية، وتجاهل واضح لدور التخطيط والمتابعة والتقييم.

حتى مجلس الإنماء والإعمار الذي من المفترض أن يكون الذراع التخطيطية والتمويلية للدولة، فقد اختُزل دوره بالمهام التنفيذية فقط، وهذه الأخيرة غالباً ما تتعثّر أو تتم بشكل منقوص. مع تعيين مجلس الوزراء مؤخراً إدارة جديدة لمجلس الإنماء والإعمار، تطرح الأسئلة نفسها: هل سيتمكّن المجلس من استعادة دوره المفقود؟ وهل تكفي النوايا الجدّية وجهود المجلس وحيداً لإنجاح الإستثمار العام في البلد في ظل أزمة تمويل خانقة، وتراجع الهبات الدولية، وازدياد الاعتماد على القروض التي ستكبّل الأجيال القادمة؟

أمام هذا الواقع تُطرح بإلحاح فكرة تفعيل إدارة للاستثمار العام تقوم بمهامها من الألف إلى الياء، بدءاً من التخطيط مروراً بدراسة الجدوى واختيار المشاريع ومتابعتها، ووصولاً إلى تقييم أثرها وفوائدها. إدارة استثمار عام تعمل بمنطق الكفاءة لا التسييس، وتوحّد الرؤية بين التمويل العام، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، والمشاريع الممولة من الموازنة أو من الخارج.

أهمية الاستثمار العام

الاستثمار العام ليس مجرد بنى تحتية تُشترى أو تُنفذ، بل هو رافعة اقتصادية واجتماعية لا غنى عنها شرط أن تُدار بالشكل الصحيح. من هنا يُعد إصلاح إدارة الاستثمار العام أحد أبرز الاستحقاقات الإصلاحية التي تواجه لبنان اليوم، لاسيما في ظل غياب التمويل الدولي.

والمقصود بالاستثمار العام، الإنفاق الذي تقوم به الحكومات بهدف الاستحواذ على أصول ثابتة كالمباني والبنى التحتية والمعدات وغيرها، أو صيانة الأصول وتحسينها. ويختلف الاستثمار العام عن الخاص بكونه لا يسعى إلى الربح المباشر بل إلى تعزيز النمو الاقتصادي، وتحسين البيئة الاقتصادية، وتحقيق الفوائد الاجتماعية للمجتمع ككل كتوفير الكهرباء والمياه والطبابة والتعليم. ويُنفّذ هذا النوع من الاستثمار عادة عبر موازنات الدولة أو الشراكات مع القطاع الخاص أو من التمويل الخارجي المفقود حالياً.

وبحسب ورقة بحثية لرئيسة الاقتصاديين في معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي سابين حاتم، تكمن أهمية الاستثمار العام في لبنان في كونه يُعتبر حجر الأساس في خطة تعافي لبنان الاقتصادي، خصوصاً بعد الانهيار الكبير منذ نحو 6 سنوات. وبحسب صندوق النقد الدولي فإن زيادة الاستثمار العام بنسبة 1 في المئة من الناتج المحلي يمكن أن تنعش النشاط الاقتصادي بشكل كبير، وتُعزّز إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2.7 في المئة.

أما عن كيفية إدارة لبنان لاستثماراته العامة، فهنا يكمن جوهر الأزمة. إذ يغيب التخطيط المركزي وهو ما يشتّت الصلاحيات ويدفع بتنفيذ المشاريع إلى العشوائية. وكنتيجة طبيعية لهذا الواقع يتجلّى سوء الإدارة في معظم المشاريع والبنى التحتية، ويعبث الفساد وسوء تخصيص الأموال في مشاريع الاستثمار العام.

وتبقى أبرز المشاكل الشائعة والتي تدفع بإدارة الاستثمار العام إلى الفشل، خطط التنمية المنفصلة عن الموازنات أو المشاريع الفعليّة والعكس صحيح. مشاريع “الفيل الأبيض” أي المشاريع الاستثمارية ذات الأكلاف العالية ولكنها ذات قيمة اجتماعيّة واقتصاديّة منخفضة. نقص في المشاريع ذات الجودة العالية التي هي في طور التنفيذ. منح المشاريع لشركات غير مؤهّلة. صفقات مبهمة على الموارد لتطوير البنية التحتيّة من دون وجود ضمانات مناسبة لضمان قيمة جيدة. فساد أو تأخير في المشتريات. تأخير داخلي أو في موقع المشتريات. زيادة التكلفة، وتجاوز المهلة المحدّدة. النزاعات التعاقديّة أو المشاريع المتروكة وتدني جودة المشاريع المنجزة.

والأخطر من كل ذلك أن تلك العبثية ساهمت بانخفاض الاستثمار العام من 11.6 في المئة عام 2017 إلى 3.2 في المئة عام 2020، بحسب الورقة البحثية.

هل من حلول؟

ولعل الحلول لتلك الفوضى في إدارة الاستثمار العام، تبدأ من إصلاح المنظومة الإدارية والقانونية للاستثمار العام، بحسب خبیرة البنیة التحتیة والشراكة بین القطاعین العام والخاص دیالا شعار، التي تقول “في لبنان، لا توجد إدارة موحّدة للاستثمار العام، ما يؤدي إلى تنفيذ المشاريع بطريقة عشوائية وغير منتظمة”. وتوضج شعار في مداخلتها خلال لقاء حواري أقامه معهد باسل فليحان ومؤسسة مهارات حول إدارة الاستثمار العام في لبنان، أنه في الأساس، إدارة الاستثمار العام هي الإطار الذي ينظّم دورة حياة المشروع الاستثماري من البداية حتى النهاية: بدءاً من فكرة المشروع، مروراً بدراسته وتقييم جدواه، ثم إرسائه وتنفيذه، وصولاً إلى متابعة نتائجه والتحقّق من الفوائد المتوقعة منه. وكل ذلك يتطلب تخطيطاً فعالاً وتنسيقاً مؤسساتياً ومكافحة الفساد، وهي نقاط ضعف مزمنة في لبنان.

في المفهوم السليم، يجب أن يكون الاستثمار العام منسجماً مع رؤية اقتصادية واضحة، تحدّد فيها الحكومة دور كل قطاع في النمو الاقتصادي، وتُبنى المشاريع وفقاً لهذه الرؤية. لكن، حتى في ظل غياب هذه الرؤية الشاملة في لبنان، لا بد من وجود برنامج استثمارات عامة يحدّد الأولويات ويترجمها إلى مشاريع تخدم القطاعات والخدمات العامة الأكثر إلحاحاً.

لكن ورغم أن قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص يُفترض أن يكون جزءاً من أدوات تنفيذ الاستثمار العام، يرى نائب رئیس مجلس الإنماء والإعمار إبراھیم شحرور أن صدوره ترافق مع تهميش إضافي لدور مجلس الإنماء والإعمار، نتيجة اعتقاد خاطئ أن هذا المجلس لا علاقة له بالمشاريع التي ينفّذها القطاع الخاص. لكن الواقع أن الدولة ومنذ سنوات تعتمد فعلياً على القطاع الخاص في إنتاج خدمات عامة من دون أن يُحتسب ذلك ضمن الاستثمار العام. ومع الأسف، ما يظهر في الموازنة العامة لا يعكس حجم أو نوعية هذه الاستثمارات. فالموازنات لا توضح بشكل دقيق ما يُنفذ من مشاريع، ما يسلّط الضوء على ثغرات محاسبية ومؤسساتية كبيرة.

والأخطر، أن لبنان لم يشهد حتى اليوم إقرار أي برنامج استثماري شامل من قبل أي حكومة. فإما تُعرض البرامج على مجلس الوزراء من دون مناقشتها، أو تُناقش من دون أن تُقر، نتيجة التعطيل السياسي المزمن بين الأطراف المتناقضة.

مصدرالمدن - عزة الحاج حسن
المادة السابقةوفد تقني قبرصي إلى بيروت: هل يستأنف الترسيم البحري مجدداً؟
المقالة القادمة2 تريليون دولار سنوياً… خسائر عالمية