التدريبات النفسية التي تقوم بها الحكومة استعداداً لتقديم مشروع موازنة 2019 تؤدّي الى حال من التوجّس لدى كثيرين. أصحاب الدخل المحدود والموظفون خائفون من أن تكون المعالجات على حسابهم، وأصحاب الاعمال والضليعون في المال والاقتصاد، قلقون من تكرار تجربة الحسابات الخاطئة.
لا يشعر الناس بالارتياح الى «الطبخة» التي يتمّ إعدادها في مشروع موازنة العام 2019، وهم يترقبون بحذر الاقتراحات التي سيجري تقديمها لخفض العجز مقارنة مع العام 2018. وتتركّز المخاوف الشعبية على نقطتين:
الاولى – احتمال زيادة رسوم وضرائب جديدة، خصوصاً بالنسبة الى الضريبة على القيمة المضافة (TVA) والرسم الاضافي على صفيحة البنزين.
ويتمّ التركيز على هاتين النقطتين دون سواهما من الضرائب والرسوم، لأنّ التجارب السابقة أظهرت أنهما يدرّان المزيد من الايرادات، رغم تراجع الحركة الاقتصادية، على عكس الضرائب والرسوم الاخرى، والتي قد تؤدي الى انكماش والى تراجع الايرادات بدلاً من زيادتها. كذلك هناك قلق من زيادة تعرفة الكهرباء في وقت مُبكر من مرحلة تنفيذ الخطة الكهربائية، ومن زيادة تعرفة الاتصالات والانترنت.
وقد شهدت ايرادات وزارة الاتصالات تراجعاً كبيراً في خلال العام 2018، وايرادات هذه الوزارة تشكّل مورداً اساسياً في دعم الخزينة.
الثانية – خفض رواتب موظفي القطاع العام، سواء من خلال الغاء مفاعيل سلسلة الرتب والرواتب، أو جزء منها، أو عبر خفض نسبة مئوية محددة من الرواتب. هذا بالاضافة الى قلق يراود الاسلاك العسكرية من احتمال الغاء التدبير رقم 3، والذي سيؤدي الى خفض دراماتيكي في تعويضات نهاية الخدمة بالنسبة الى العسكريين.
لكن، الى جانب قلق الناس مما قد يطاولهم من ضرائب او خفض اجور تؤدي الى تراجع قدراتهم الشرائية، هناك مخاوف لدى اصحاب الاعمال وخبراء الاقتصاد من دعسات ناقصة تؤدي الى النتائج نفسها التي وصلت اليها النتائج المالية الكارثية في 2018 مقارنة مع 2017. مع العلم، ان تقديرات موازنة 2018، كانت تشير لدى إقرارها الى أرقام متقاربة في العجز مع 2017. وتتركّز مخاوف الاقتصاديين على النقاط التالية:
اولاً – تصرفات عشوائية لخفض الانفاق لا تؤدي الغاية منها. وعلى سبيل المثال، يرى أصحاب الخبرة والاختصاص انّ الحماسة الشعبية لقرارات تؤدّي الى الغاء كل الإعفاءات الجمركية، أو رفع الدعم عن كل الجمعيات، قد لا تكون في محلها.
ففي لائحة الإعفاءات الجمركية، على سبيل المثال لا الحصر، هناك بنود وُضعت لدعم قطاعات صناعية محددة. ولا يمكن الغاء الإعفاءات من دون دراسة تأثير هذا الامر على القطاعات الصناعية التي تحظى بهذه الاعفاءات.
كذلك في موضوع الجمعيات، هناك جمعيات حيوية للمجتمع، منها من يساعد في معالجة أمراض معيّنة، ومنها من يساهم في معالجة الادمان على المخدرات.
وبالتالي، اذا كانت هناك جمعيات تكتفي بتنظيم المهرجانات لدعايات انتخابية وشخصية، واذا كانت هناك جمعيات لا تفعل اي أمر سوى سرقة المال الذي تقدّمه لها الدولة، فهذا لا يبرّر ضرب الجمعيات الحيوية للمجتمع الرعائي.
ثانياً – التاكّد من جدوى بعض القرارات. على سبيل المثال، أمضينا السنوات العشر الأخيرة ونحن نسمع انّ خفض كلفة الاتصالات الخليوية، له تأثير ايجابي مزدوج. اولاً، يشجّع الاعمال، وثانياً، يزيد من ايرادات الدولة وليس العكس، على اعتبار انه يشجع على المزيد من الانتشار والاستخدام.
وفي كل مرة كان يتمّ فيها خفض التعرفة، كانت وزارة الاتصالات تُصدر بعد بضعة أشهر بيانات تُظهر ارتفاع الاستهلاك وتحسّن المداخيل. اليوم، يقول وزير الاتصالات انه لا ينوي خفض التعرفة، بل قد يرفعها عبر إلغاء الستين دقيقة المجانية على الخطوط الثابتة، لأنّ وضع الخزينة لا يسمح بالخفض. فهل يعني ذلك انّ كل الدراسات السابقة كانت مزيّفة، وغير صحيحة؟ وأين ذهبت نظرية سعر أقل، استهلاك أكثر، مدخول أكبر؟
ثالثاً – الأخذ في الاعتبار الاوضاع المستجدة لدى وضع الارقام التقديرية للعجز والإنفاق والإيرادات في الموازنة. اذ لا بدّ من مراعاة حقيقة انّ سعر النفط استمر مرتفعاً، وهو لن يعود الى معدل 44 دولاراً للبرميل كما كان في العام 2016، ولا حتى الى معدل 55 دولاراً كما في العام 2017.
وعلى الأرجح انه قد يرتفع قليلاً عن معدل العام 2018 الذي سجّل 72 دولاراً للبرميل. خصوصاً في ظل الاصرار على الاستمرار في خفض الانتاج، وفي ظل تراجع إضافي في كميات النفط التي ستتمكّن ايران من تصديرها في النصف الثاني من 2019.
رابعاً- الاخذ في الحسبان ارتفاع اسعار الفوائد، والذي سيؤدّي تباعاً الى تضخّم سريع في كلفة الدين العام. وكلما تمّ استبدال كمية من الديون المستحقة، باصدارات جديدة، كلما ارتفع معدل سعر الفائدة على مجمل الدين الذي سيصل في نهاية العام 2019 الى ما بين 93 و94 مليار دولار.
وقد حقّق ديْن لبنان الخارجي عائداً بلغ 2.93% خلال شهر شباط 2019، مقابل عائد بلغ 4.29% في شهر كانون الثاني 2019، ليصل بذلك العائد التراكمي إلى 7.34% لغاية شهر شباط 2019. وبذلك، إحتلّ لبنان المركز الرابع (الترتيب من الأعلى تكلفة الى الأدنى) بين 13 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
خامساً- ينبغي احتساب التراجع الاضافي في الأعمال، بما يعني انّ ايرادات الخزينة الناتجة من الحركة الاقتصادية قد تتراجع هي الاخرى.
في الختام، يمكن الاستنتاج أنّ مناخات القلق التي تسود في الاوساط الشعبية ومجتمع الاعمال منطقية ومُبرّرة. خصوصاً انّ الحكومة لم تتصرّف حتى الآن على الأقل، على أساس انّ الوقت يُقاس بالدقائق، وانّ الدين العام يزيد بحوالى 12 الف دولار في الدقيقة، استناداً الى الدراسة التي نشرتها «الدولية للمعلومات» أخيراً.