من سيفتقد العملات المعدنية بعد رحيلها؟

تتجمع في ازدراء واضح داخل الجِرار أو تحت وسائد الأسرّة، ولا يُحتاج إليها إلا لسداد حساب المغسلة وما سواها من خدمات. وتستمع لخشخشة أصواتها داخل الجيوب، تلك الموسيقى التي تبعث بنغمات رنانة إلى أذن البعض، وهي مثيرة للإزعاج الشديد للبعض الآخر. وتراها غارقة في قاع النوافير، أو مستقرة في أسفل الآبار، تعكس ثروة من الأماني، وهي كابوس مريع من العد والفرز.

توجَد العملات المعدنية في كل مكان، حتى إنك تفشل في العثور عليها في أي مكان، وأصبح من العسير العثور عليها في الآونة الراهنة لأسباب غير مفهومة. ومن خلال قلب العادات المتعارف عليها رأساً على عقب، تمكن الوباء الراهن من طرد العملات المعدنية خارج دورة التداول المعهودة مع تسريع التوجهات صوب البطاقات البلاستيكية، والتطبيقات الإلكترونية، وغير ذلك من وسائل السداد غير النقدية، تلك التي تجعل من العملات المعدنية ماضياً قد عفا عليه الزمن.

تملك الحكومة الصينية خططاً واضحة بشأن العملات الرقمية، كما يجري بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأبحاث والتجارب على الأمر نفسه. أما شركة «فيسبوك» العملاقة فلديها عملة رقمية قيد التداول حالياً، ولا يزال المتداولون بعملة «بيتكوين» الرقمية يواصلون الدعاية والترويج لها في كل مكان. وصار الملايين من المواطنين الأميركيين يتجنبون التعامل بالعملات المعدنية واستبدلوا بها طرق السداد عن طريق الهواتف الذكية، أو التسوق عبر مختلف تطبيقات الهواتف.

يقول أليكس تابسكوت، وهو أحد مؤسسي معهد أبحاث قواعد البيانات المتسلسلة، ومقره في كندا: «هناك معركة تدور رحاها راهناً بشأن مستقبل الأموال. وتعتبر الحكومات، والمصارف، وشركات البطاقات الائتمانية، والمجتمعات الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت هي من بين الفصائل التي تحاول جاهدة تغيير أنماط السداد لدى الناس في كل مكان».

وأضاف السيد تابسكوت يقول: «أما بالنسبة إلى الأموال النقدية، فلقد صارت من المرثيات التي يتواتر خروجها من مجريات الأحداث الراهنة».

كيف تمكن فيروس «كورونا المستجد» من تهميش التداول بالعملات المعدنية؟

لم يتحدد ميعاد نهائي لجنازة التداول بالأموال النقدية حتى الآن، غير أن الوباء الراهن قد سهّل كثيراً من تصور عالم خاوٍ تماماً من العملات المعدنية، ثم أعاد تنشيط الحركة الرامية إلى التخلص تماماً من تلك العملات. أما بالنسبة إلى البنوك، وشركات البطاقات الائتمانية، وربما بعض أنصار التعامل بعملة «بيتكوين» الرقمية، فإن زوال كل فئة من فئات العملات النقدية (الورقية منها والمعدنية) سوف تكون من قبيل الأنباء السارة للجميع.

ومع بلوغ العملات المعدنية إلى أسوأ حالاتها في يونيو (حزيران) من العام الحالي في الولايات المتحدة، ناشدت المجموعات التجارية الخاصة بالبقالة، ومحطات التزود بالوقود، والمتاجر التدخل للمساعدة من قبل الحكومة، ووصفت قلة المعروض من العملات المعدنية بأنها كمثل حالة الطوارئ التي تهدد قدرتهم على مواصلة خدمة العملاء والاستمرار في العمل. وشرع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في تقنين المعروض من العملات المعدنية في الأسواق، وأطلقت إدارة سك العملة في الولايات المتحدة العنان للإنتاج في حالة تأهب قصوى، مع مطالبة الناس بإعادة العملات المعدنية الفائضة إلى الدورة الاقتصادية المحلية في البلاد. وطلبت سلاسل المتاجر الكبرى (من شاكلة «وولمارت» و«سي في إس») من العملاء سداد المشتريات بالبطاقات الائتمانية، أو دفع الثمن نقداً بقيمته الحقيقية، ووجهت الاتهامات إلى سلسلة مطاعم بأنها تمنع العملاء الذين يسددون نقداً من الحصول على باقي الحساب بالعملات المعدنية.

يقول البروفسور جاي زاغورسكي، الأستاذ في كلية كويستروم لإدارة الأعمال التابعة لجامعة بوسطن: «في حين حاولت بعض الشركات الصغيرة التأقلم بصعوبة مع العالم غير النقدي، فإن العديد من شركات التكنولوجيا، والمصارف، وشركات البطاقات الائتمانية تسعى جاهدة من أجل الوصول إلى ذلك العالم غير النقدي بالمرة».
بالنسبة إلى العديد من الأشخاص الذين يسددون قيمة مشترياتهم بالوسائل الرقمية فإن الأمر مريح للغاية، ولكن بالنسبة إلى الفئة المتزايدة من السكان الذين يعانون الأحوال الاقتصادية العسيرة، فإن عدم السداد النقدي هو من المشكلات المكلفة للغاية. وتعتبر الرسوم الخفية، مثل عدم الاحتفاظ بالحد الأدنى من الرصيد المصرفي في الحساب أو في البطاقة الائتمانية مسبقة الدفع، يمكن لتلك الأموال الخفية أن تسبب مشاكل منهكة للغاية.
وبالنسبة إلى الشركات التي تستقطع نسبة مئوية من المعاملات المالية، فإن هذا الأمر يعتبر من المكاسب غير المتوقعة. وقال الدكتور زاغورسكي عن ذلك: «إن اقتطعت نسبة 2 في المائة من كل معاملة مالية في الولايات المتحدة، فإن الأمر يساوي بلايين الدولارات من الأموال المستقطعة في كل عام».

وقال السيد تابسكوت إن البطاقات الائتمانية توفر خصوصية أقل بقليل من السداد النقدي لأنها تخلف وراءها آثاراً من بقايا المعاملات الرقمية.

– التخطيط والارتجال للعملات

كان العديد من أنصار العملات الرقمية المشفرة، من أمثال كاثرين نيكولسون المديرة التنفيذية لشركة «بلوك سيفر»، قد اقترحت عملة «بيتكوين» الرقمية كأحد الحلول المطروحة لمشاكل النظام المالي الراهنة، مثل الحصول على القروض لصالح الملايين من الأشخاص الذين لا يملكون حسابات مصرفية خاصة بهم.

وقالت السيدة نيكولسون في محاضرة مصورة لجامعة سينغيولاريتي في عام 2015. تلك المنظمة التي تهدف إلى توسيع قاعدة التعامل التقني في المجتمع: «تأتي عملة (بيتكوين) الرقمية للصالح العام. وهي من العملات العالمية، ولذلك فإنها تملك القيمة ذاتها بصرف النظر تماماً عن مكان وجودك حول العالم، فتلك العملة الرقمية وقيمتها ثابتة في كل وقت وفي كل مكان».

بيد أن السيد تابسكوت قال أن عملة «بيتكوين» الرقمية مع العملات المشفرة الأخرى ما زالت تُعتبر من المنتجات المتخصصة بصورة نسبية، وهي أبعد ما تكون عن أن تعتبر بديلاً واضحاً وعملياً عن الاستخدام النقدي واسع النطاق. ويخشى بعض أنصار العملات الرقمية المشفرة أن تخضع معاملات العملات الرقمية للتراجع بقوة القانون الصادر في عام 1862 الذي جرى سَنُّه وتمريره خلال فترة النقص الكبير في العملات المعدنية.

– الناس يدخرون العملات المعدنية

سوف تحظى العملات المعدنية بالأنصار والمدافعين وهواة الجمع والاقتناء على الدوام، من أمثال أعضاء جمعية النقود الأميركية البالغ عددهم 26 ألف عضو. ويأمل السيد رود غيليس مدير التعليم في الجمعية ألا تتوقف العملات المعدنية عن التداول في البلاد أبداً. ولقد قال عن ذلك: «أكره تماماً فكرة أن نتحول إلى مجتمع بلا أموال نقدية على الإطلاق، كما أكره لمجتمعنا أن يفقد منظوره التاريخي لهذه القيمة مع مرور الوقت».

ولقد وصف العملات المعدنية بأنها تعكس الإرث التاريخي والثقافي للأمة الأميركية في أي فترة من فترات حياتها. وقبل أن تظهر صورة الرئيس الراحل أبراهام لينكولن على البنس الأميركي، كان يحمل صورة «ليدي ليبرتي – سيدة تمثال الحرية» بغطاء الرأس المعهود لها. كما ظهرت صورة الرئيس الأميركي الراحل فرانلكين روزفلت على عملة العشرة سنتات لتكريم جهوده الكبيرة التي بذلها من أجل القضاء على مرض شلل الأطفال في الولايات المتحدة الأميركية من خلال «مسيرة البنسات» التي نُظمت في أربعينات القرن الماضي.

وقال السيد غيليس: «لا تأتي تصاميم العملات المعدنية من باب المصادفة المحضة. إذ يمكن للمرء أن يتعلم الكثير عن الثقافة الأميركية من دراسة الصور الظاهرة على وجهي الفئات المختلفة من العملات المعدنية».
كما نجحت العملات المعدنية في الصمود في وجه العديد من الاختراعات الأخرى – من شاكلة الفواتير الورقية، وأسواق الأوراق المالية، ونظام «إي زي باس» الإلكتروني لتحصيل رسوم المرور – والتي تجاوزت أعمارها أعمار العديد من الحكومات الملكية، والجمهوريات، وربما الإمبراطوريات التي جرى تكوينها لتتحد وتتماسك وتتواصل. وقالت الدكتورة فلور كيميرس، عالمة الآثار في جامعة غوته بمدينة فرانكفورت الألمانية إن قيمة العملات المعدنية كآثار وأعمال فنية رائعة للغاية. ولقد وصفت العملات المعدنية القديمة بأنها مثل «الوثائق التاريخية» التي يتوارثها الناس عبر القرون وعبر القارات، لا سيما وهم يساومون، ويكدسون، ويشقون طريقهم عبر حياتهم اليومية في كل مكان. كما قالت الدكتورة كيميرس إنه من خلال تصاميمها، وتكوينها المادي، ومواقع العثور عليها، يمكن للعملات المعدنية أن تكشف كثيراً من الدلائل حول الثقافة، والسياسة، والمعتقدات، والصناعات، والتجارة، والحياة المنزلية.
وأضافت تقول أخيراً: «إنها كمثل البقايا الملموسة لنظم الحكم وأنماط الحياة السابقة، وهي أيضا تعد جزءا من الحياة اليومية للناس العاديين قبل 2000 عام من الزمان».

مصدرالشرق الأوسط
المادة السابقةالخدمات المالية في وجه الخلاف البريطاني ـ الأوروبي
المقالة القادمةكيا تطرح نسخا شبابية قوية وسريعة من سيارة Ceed الاقتصادية