في بلدة غزير، الواقعة في قلب قضاء كسروان، لم تمرّ الزيادات الأخيرة في الرسوم البلدية بهدوء. فالقرار الذي برّرته البلدية بتطبيق بنود موازنة 2024، أثار جدلاً واسعاً بين الأهالي الذين وجدوا أنفسهم أمام فواتير مضاعفة في ظل انهيار اقتصادي مستمر.
فهل تشكّل هذه الزيادات خطوة إصلاحية ضرورية لإنقاذ العمل البلدي، أم عبئاً جديداً يثقل كاهل المواطنين؟ وهل تطبّق فعلاً نصوص الموازنة كما أرادها المشرّع، أم تُستخدم كذريعة لتغطية عجز مزمن في الجباية والإنفاق؟
أسئلة تتجاوز غزير لتلامس جوهر الأزمة البلدية في لبنان: حدود صلاحيات البلديات، مصادر تمويلها، وغياب الشفافية في إدارة المال العام. من هنا، يحاول هذا التحقيق تتبّع جذور الزيادات في الرسوم البلدية، من نصوص الموازنة إلى واقع التطبيق، كاشفاً التناقض بين القانون والممارسة، وبين الحاجة إلى الإصلاح وفقدان الثقة بالمؤسسات المحلية.
للبدء في الملف، يوضح نائب رئيس البلدية، المحامي ناجي هاني، أن “هذه الزيادات ليست قراراً اعتباطياً أو ارتجالياً”، بل جاءت استناداً إلى القوانين المرعية، ولا سيما المادة 36 من قانون موازنة ، 2024 التي تنص على رفع القيم التأجيرية التي تحسب على أساسها الرسوم البلدية، التي سمحت للبلديات برفع الرسوم بنسبة تعادل نصف نسبة زيادة الحد الأدنى للأجور، وجاءت الزيادات على الشكل التالي، 10 مرات للوحدات السكنية، من 10 لـ20 مرة للوحدات غير السكنية، بحسب الطابق (سفلي، علوي، أرضي.)
وبالعودة إلى قانون الرسوم والعلاوات الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 118/1977 (قانون البلديات)، ولا سيّما المواد من 74 إلى 95 منه، يسمح اليوم للبلديات بمضاعفة رسومها لتتماشى مع الواقع الاقتصادي الجديد. فمثلاً:
• ارتفع رسم رخصة المقهى من 200 ألف إلى نحو 12 مليون ليرة.
• ورخصة محطة المحروقات من 200 ألف إلى أكثر من 9 ملايين ليرة.
ويشرح هاني أن الإدارة الجديدة للبلدية، بعد تسلّمها مهامها، وجدت نفسها أمام “عجز كبير في الموازنة وضعف في الجباية، نتيجة تراكمات السنوات الماضية، وغياب آليات متابعة دقيقة للجباية والإنفاق”. لذلك، أطلقت البلدية خطة إصلاح مالي شاملة تهدف إلى ضبط الموارد وتفعيل الإيرادات بطريقة “عادلة وشفافة”.
“رفع الحد الأدنى للأجور من تسعة إلى ثمانية عشر مليون ليرة فرض زيادة بنسبة 50% في الرسوم لعام 2024، ثم جاء رفع الحد الأدنى مجدداً إلى 27 مليوناً في نيسان 2025 ليفرض زيادة إضافية بنحو 27.5%. نحن نطبّق القانون، ولسنا من نقرره.”
لكن هذه الزيادات، بحسب هاني، لا تقتصر على الجانب المالي البحت، بل تُعدّ وسيلة لتأمين مداخيل تمكّن البلدية من تنفيذ مشاريع إنمائية وخدماتية. ومن أبرز هذه المشاريع: تحسين الإنارة العامة بالتعاون مع أصحاب المولدات، دعم الأمن الليلي، والمساهمة في معالجة أزمة النفايات المتفاقمة.
أما عن آليات الشفافية التي ستعتمدها البلدية في صرف الأموال، وهو التحدي الأكبر الذي يعاني منه المواطنون والذي ينتج عنه انعداما للثقة في السلطات العامّة، يجيب هاني، “لدينا موقع الكتروني خاص بالبلدية، نقوم بنشر كل الأخبار التي تتعلق بالبلدية سواء كان لها علاقة بالشفافية المالية أم لا”.
ويضيف: “غزير تمتد من الساحل إلى الجبل، وتضم مؤسسات تربوية وصحية ودينية تحتاج إلى رعاية دائمة. نحن مضطرون لتأمين موارد توازي حجم البلدة واحتياجاتها، وإلا سنقف عاجزين أمام أبسط المتطلبات اليومية.”
صلاحيات البلديات وحدودها: بين القانون والواقع
يشرح القاضي إيلي معلوف أن البلديات لا تتجاوز القانون حين ترفع الرسوم، بل تطبّق نصوصه كما هي. فالمادة 36 من موازنة 2024 لا تغيّر نسب الرسوم، بل تضاعف القيمة التأجيرية التي تُحتسب على أساسها الضريبة البلدية.
“النسب بقيت كما هي: 5% للوحدات السكنية و7% لغير السكنية، لكن القيم التأجيرية ارتفعت بما يتناسب مع رفع الحد الأدنى للأجور. كل بلدية تطبّق الزيادة بنسبة نصف نسبة رفع الحد الأدنى، وهذا هو السقف القانوني.”
ويضيف معلوف أن أي تجاوز لهذا السقف يُعتبر مخالفة صريحة تستوجب المساءلة، لكنه في الوقت نفسه يلفت إلى أن القانون يمنح البلديات هامشاً محدوداً جداً للحركة في ظل غياب إصلاح شامل للمالية العامة.
أما عن مصادر التمويل، فيشير القاضي إلى أن الرسوم البلدية ليست المورد الوحيد، بل هناك:
• حصة البلديات من الصندوق البلدي المستقل،
• رسوم المجارير والإعلانات والأرصفة،
• الهبات والمساهمات من مؤسسات أو منظمات دولية.
لكن معظم البلديات تعاني من تأخير التحويلات المالية من الدولة، ومن غياب الشفافية في آلية توزيع الصندوق البلدي المستقل، ما يخلق فجوة بين إمكانياتها الفعلية ومتطلبات التنمية المحلية.
“هناك بلديات بالكاد تستطيع دفع رواتب موظفيها أو تأمين مازوت للنفايات والإنارة، فكيف يمكنها إطلاق مشاريع؟ العجز المزمن بات السمة العامة.”
غياب الشفافية: القوانين موجودة… لكن من يطبّقها؟
وفي سياق تحدي الشفافية في ملف البلديات، تؤكد مسؤولة التواصل في مبادرة “غربال” المتخصّصة بالشفافية والحوكمة المحلية نورهان شرف الدين أن معظم البلديات اللبنانية لا تطبّق حتى اليوم قانون الحق في الوصول إلى المعلومات ولا قانون الشراء العام، رغم مرور سنوات على صدورهما.
“وزارة الداخلية لم تُلزم البلديات بتعيين موظف مختص بالمعلومات، ولم تطوّر آليات رقمية لنشر البيانات أو الموازنات السنوية. في بعض القرى، لم يكن الموظفون يعلمون أصلًا بوجود هذا القانون.”
توضح شرف الدين أن مبادرة “غربال” حاولت سدّ هذه الفجوة عبر إنشاء خط ساخن يتيح للمواطنين تقديم طلبات معلومات، وغالباً ما تتولّى المبادرة المهمة نيابة عنهم لحمايتهم من الضغوط الاجتماعية والسياسية، خصوصًا في البلدات الصغيرة.
“الناس تخاف أن تُحسب على جهة ضدّ البلدية، لذلك نؤدي نحن هذا الدور كوسيط محايد. لكننا نواجه عراقيل كثيرة في الحصول على البيانات، خصوصًا حين تكون هناك مصالح أو محسوبيات”.
وتشير إلى أن الثقافة العامة حول الشفافية تحسّنت تدريجيًا خلال السنوات الأخيرة، لكن التطبيق لا يزال جزئيًا ومتفاوتًا بين بلدية وأخرى. فبعض البلديات، خصوصًا تلك التي تتعاون مع منظمات المجتمع المدني أو الجهات المانحة، بدأت بنشر موازناتها على الإنترنت، بينما ما زالت أخرى تكتفي بالقرارات الشفوية والعلاقات الشخصية.
بين الإصلاح والشفافية: فجوة في التطبيق
من جانبها، ترى شرف الدين، أن ما تقوم به بعض البلديات من زيادات في الرسوم “يدخل ضمن صلاحياتها القانونية”، لكنها تشدّد على أن المشكلة الأساسية تكمن في غياب الشفافية والمساءلة.
“رفع الرسوم قرار غير شعبي في الغالب، لذلك تتجنّب البلديات اتخاذه إلا تحت غطاء قانوني. لكن السؤال الأهم: هل يتم الإعلان بوضوح عن كيفية صرف هذه الأموال؟ هل يعرف المواطنون أين تذهب رسومهم؟”
تشرح شرف الدين أن البلديات تعتمد في إيراداتها على ثلاثة مصادر رئيسية:
1. الرسوم المحلية (النفايات، الأملاك، التراخيص…)
2. حصة الصندوق البلدي المستقل،
3. الهبات والمشاريع الممولة خارجيًا.
غير أن هذه الإيرادات غير ثابتة، وغالباً ما تتأخر أو تفقد قيمتها بسبب التضخّم.
فعلى سبيل المثال، بلغت حصة البلديات من الصندوق لعام 2022 نحو 637 مليار ليرة، لكنها صُرفت في عام 2024 بعد أن تدهورت قيمتها الشرائية إلى أقل من النصف.
“هذا التأخير يقتل أي محاولة للتخطيط المالي، ويحوّل البلديات إلى إدارات طوارئ لا يمكنها التفكير على المدى الطويل.”
وتضيف شرف الدين أن إنشاء صندوق بلدي مستقل بصيغة مؤسساتية واضحة وشفافة، بعيداً عن هيمنة السلطة المركزية، يُعدّ مدخلاً أساسياً لإصلاح العمل البلدي وتعزيز قدرته على الاستجابة لحاجات المجتمعات المحلية. فوفق رأيها، «لا يمكن الحديث عن تنمية متوازنة أو عن دعم البلديات في ظل استمرار نمط التحويلات المالية الخاضع لقرارات سياسية ظرفية»، معتبرةً أن استقلالية الصندوق المقترح من شأنها تأمين انتظام الموارد وتوزيعها بشكل عادل ومحاسبة الجهات التي تعرقل تنفيذ المشاريع الإنمائية.
وترى شرف الدين أن ربط التوزيع بعدد السكان المقيمين فعلياً يعبّر عن مقاربة عادلة للتنمية، خصوصاً مع التفاوت الكبير بين البلديات من حيث حجم السكان والضغوط الخدماتية، مشيرةً إلى أن بعض البلديات الصغيرة تستفيد اليوم من حصص مماثلة لبلديات تحتضن أعداداً كبيرة من السكان والنازحين، ما يخلق خللاً في توزيع الموارد ويحدّ من قدرتها على تلبية المتطلبات الأساسية.
كما تؤكد أن إشراك البلديات في القرار المالي، عبر تمثيلها في مجلس إدارة الصندوق، يُعدّ خطوة ضرورية لكسر مركزية القرار، التي غالباً ما تعرقل المشاريع وتُخضعها للاعتبارات السياسية. وتشير إلى أن وزارة الداخلية، في وضعها الحالي، لا تمتلك القدرة التقنية واللوجستية الكافية لإدارة ملف بهذا الحجم، وأن إشراك البلديات واتحاداتها في آلية تحريك الحساب سيمنحها دوراً فعلياً وليس شكلياً.
وفي ما يتعلق بالشفافية، تشدد شرف الدين على أهمية إخضاع الصندوق للتدقيق المالي الخارجي سنوياً، ونشر التقارير بشكل علني، بما يتيح للمواطنين والجهات الرقابية متابعة كيفية صرف الأموال، لافتةً إلى أن هذا الجانب أساسي في استعادة الثقة بين المواطن والسلطات المحلية. وتختم بالقول: «حين تُدار الأموال بآليات واضحة، وتُصرف بناءً على حاجات فعلية موثّقة، يصبح بإمكان البلديات أن تتحول من سلطة تنفيذية محدودة، إلى شريك حقيقي في التخطيط للتنمية».
بين القانون والتنمية: إصلاح يحتاج إلى ثقة
في غزير، كما في عشرات القرى اللبنانية، تبدو الصورة ضبابية بين محاولات جدّية للإصلاح المالي وبين واقع إداري هشّ يعاني من غياب الرقابة والتمويل المستدام.
ويضيف آخر: “البلدية تحاول، لكن الوضع الاقتصادي خانق، والمواطن لم يعد قادراً على تحمّل أي زيادة.”
في المقابل، يرى نائب رئيس البلدية أن الإصلاح المالي لا يمكن أن ينجح من دون تعاون المواطنين، لأن الجباية غير العادلة أو المتقطعة “تعني فشل أي خطة تنموية”.
وفي إطار زيادة الشفافية المالية في البلديات، تشير مسؤولة التواصل في مبادرة غربال نورهان شرف الدين إلى أنّ “إنشاء صندوق بلدي مستقل بصيغة مؤسساتية واضحة وشفافة، بعيداً عن هيمنة السلطة المركزية، يُعدّ مدخلاً أساسياً لإصلاح العمل البلدي وتعزيز قدرته على الاستجابة لحاجات المجتمعات المحلية. فوفق رأيها، «لا يمكن الحديث عن تنمية متوازنة أو عن دعم البلديات في ظل استمرار نمط التحويلات المالية الخاضع لقرارات سياسية ظرفية»، معتبرةً أن استقلالية الصندوق المقترح من شأنها تأمين انتظام الموارد وتوزيعها بشكل عادل ومحاسبة الجهات التي تعرقل تنفيذ المشاريع الإنمائية”.
وترى شرف الدين أن ربط التوزيع بعدد السكان المقيمين فعلياً يعبّر عن مقاربة عادلة للتنمية، خصوصاً مع التفاوت الكبير بين البلديات من حيث حجم السكان والضغوط الخدماتية، مشيرةً إلى أن بعض البلديات الصغيرة تستفيد اليوم من حصص مماثلة لبلديات تحتضن أعداداً كبيرة من السكان والنازحين، ما يخلق خللاً في توزيع الموارد ويحدّ من قدرتها على تلبية المتطلبات الأساسية.
كما تؤكد أن إشراك البلديات في القرار المالي، عبر تمثيلها في مجلس إدارة الصندوق، يُعدّ خطوة ضرورية لكسر مركزية القرار، التي غالباً ما تعرقل المشاريع وتُخضعها للاعتبارات السياسية. وتشير إلى أن وزارة الداخلية، في وضعها الحالي، لا تمتلك القدرة التقنية واللوجستية الكافية لإدارة ملف بهذا الحجم، وأن إشراك البلديات واتحاداتها في آلية تحريك الحساب سيمنحها دوراً فعلياً وليس شكلياً.
وفي ما يتعلق بالشفافية، تشدد شرف الدين على أهمية إخضاع الصندوق للتدقيق المالي الخارجي سنوياً، ونشر التقارير بشكل علني، بما يتيح للمواطنين والجهات الرقابية متابعة كيفية صرف الأموال، لافتةً إلى أن هذا الجانب أساسي في استعادة الثقة بين المواطن والسلطات المحلية. وتختم بالقول: «حين تُدار الأموال بآليات واضحة، وتُصرف بناءً على حاجات فعلية موثّقة، يصبح بإمكان البلديات أن تتحول من سلطة تنفيذية محدودة، إلى شريك حقيقي في التخطيط للتنمية
في نهاية المطاف، تظهر تجربة غزير كصورة مصغّرة عن المشهد البلدي في لبنان: محاولات إصلاح تواجه عقبات مالية وبيروقراطية، قوانين شفافية غير مطبّقة، ومواطنون يزدادون فقداناً للثقة بمؤسساتهم المحلية.
بين القانون والممارسة، تبقى الشفافية حجر الأساس لأي إصلاح مالي حقيقي، وضمانة لتحويل الرسوم من عبء على المواطن إلى أداة للتنمية المحلية المستدامة.
فمن دون رقابة ومساءلة وثقة متبادلة، سيبقى الإصلاح في لبنان حبرًا على ورق، وستبقى البلديات عالقة بين سعيها إلى الاستقلال المالي وواقعٍ تفرضه أزمة اقتصادية لا ترحم.
يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول “قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية” تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية – CFLI.



