في خضمّ النقاش الذي دار في السنوات الأخيرة حول توزيع الخسائر المصرفية، أصبحت فكرة تحمّل الدولة جزءاً من الخسائر، على الأقل، تحصيلَ حاصلٍ. فقد طغت فكرة تحميل الدولة جزءاً كبيراً من الخسائر، على أي نقاش، حتى صار هذا الأخير يقتصر على حصّة الدولة فقط. لكن من قال إنه يترتب على الدولة أن تستخدم أصولها (أو عائدات أصولها) لتسديد جزء من الخسائر؟ فهذا السيناريو يعتبر أن أصول الدولة أصول آنية، وليست أصولاً من المفترض أن تخدم الأجيال الحالية والمستقبلية.ليس الهدف استعادة الحديث عن أسباب الأزمة ومسؤولية الأخطاء، إنما طرح فكرة تسوية الخسائر للبدء من جديد. فهذا الأمر يُعدّ خطوة أساسية في عملية إعادة النهوض بالاقتصاد، مهما كان شكلها. وقد يكون في بعض الأحيان التذكير بالبديهيات مهماً، كي لا ينجرف النقاش السائد إلى أماكن تُعفي أصحاب المسؤولية عن تحمّل مسؤولياتهم كاملة. وبالتوازي، ليس الهدف أيضاً، الادّعاء بأن أداء الدولة، سواء من يمثّلها أكان الحكومة أم مجلس النواب أم مصرف لبنان، لم يكن سيئاً، إذ إن تحميل الدولة الخسائر، لا يعني تحميل من كان صاحباً للقرار قي العقود الثلاثة الماضية المسؤولية، بل هو تحميل لعامّة الشعب، بجيله الحالي والمستقبلي، مسؤولية خسارة لم يكونوا مسؤولين عنها.
هذا الأمر لا يشمل السيناريو الأكثر تطرفاً فقط، الذي يتمثّل ببيع الأصول، بل يشمل السيناريوهات الأقل تطرفاً، وأكثرها رواجاً يرمي إلى وضع هذه الأصول في «صندوق» يدار عبر أطراف مستقلّة وتُؤخذ عائداته لتسديد خسائر القطاع المصرفي. في أفضل الأحوال، يحرم هذا السيناريو الدولة اللبنانية من عائدات مستقبلية يمكن أن تُستخدم على شكل إنفاق استثماري يؤدّي إلى تحسين جودة الخدمات المُقدّمة من الدولة، أو تحسين البنى التحتية التي يمكن أن تُسهم في نمو القطاعات الإنتاجية في البلد وتوسيع النشاط الاقتصادي. كل هذا، من حق الأجيال الحالية والمستقبلية التي، مجدداً، لا مسؤولية عليها في الخسائر التي وقعت.
فكرة تحميل الدولة الخسائر، تأتي في إطار التأسيس لعملية إنقاذ من الخارج أو ما يُسمّى بالـbailout. حتى لو حصل الإنقاذ بشكل جزئي، تبقى مفاعيلها قائمة. فالقطاع المصرفي، بعد إعادة هيكلته، سيشهد إفلاس بعض المصارف، في المقابل سيشهد بقاء ودمج بعضها الآخر، وفي نهاية الأمر، فإن أي خسائر يتم تحميلها للدولة، هي مشاركة فعلية في إنقاذ بعض رؤساء وأعضاء مجلس إدارة ومديري المصارف. عمليات إنقاذ المصارف ليست قراراً بسيطاً. حتى في الولايات المتحدة حيث يستطيع الاحتياطي الفيدرالي أن يطبع عملته ويُقرض الدولة لتمويل عمليات الإنقاذ، كانت للأمر تبعات سيئة. فعمليات الإنقاذ، وضعت القطاع المالي الأميركي في حالة سيئة، حيث اضطر الاحتياطي الفيدرالي أن يقوم بعمليات التيسير الكمّي على مدى العقد الماضي، لإبقاء القطاع في حالة عمل طبيعي، وهذا الأمر كلّف المجتمع الأميركي كثيراً على صعيد ارتفاع كلفة المعيشة وحجم المديونية وغيرهما. يصف الاقتصادي مايكل هادسن عمليات الإنقاذ بأنها عمليات إنقاذ للنخب المالية فقط، فهي، بحسب تعبيره، لا تخدم الاقتصاد الحقيقي المتمثّل بالإنتاج والاستهلاك، بل تخدم الحفاظ على أصول النخب الغنية. في حالة لبنان، هذه النخب هي طبقة أصحاب المصارف، الذين ستتصدّى الدولة لتغطية خسائرهم في حال تم استخدام أصولها لسداد الخسائر. يمكن رؤية هذا الأمر على أنه طريقة جديدة لنقل الثروة، من الشعب إلى أيدي القلّة التي تتحكّم بهذا القطاع. فكما ذُكر سابقاً، هذه الأموال ستأتي من الإيرادات المستقبلية التي تصب في مصلحة المصارف وأصحابها بدلاً من أن تصب في المصلحة العامّة.
في هذا السياق يقول الاقتصادي ريتشارد وولف، إن الاعتماد المتكرّر على عمليات الإنقاذ، يؤدّي إلى تفاقم التفاوت في الثروة، حيث يتحمل دافعو الضرائب تكاليف هذه التدخلات في كثير من الأحيان في حين تعود الفوائد إلى الأثرياء. ويشير إلى أن تقبّل الرأي العام لمثل عمليات الإنقاذ هذه يتضاءل، ما يعكس وعياً متزايداً بينهم بشأن اللامساواة المتأصّلة في النظام. وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على الحالة اللبنانية أيضاً. المشكلة هي أن أخذ إيرادات أصول الدولة يخفّف من احتمالات النمو المدفوع من قبل السياسات الاقتصادية، والتي من المفترض أن تكون أساس أي تغيير في نظام الاقتصاد السياسي في البلد.
من ناحية أخرى، يقول هونغ كيو تران الباحث في مركز «جيو إيكونوميكس» التابع لمؤسسة «المجلس الأطلسي»، إن فكرة «الإنقاذ من الخارج» تُشكّل عائقاً أخلاقياً أمام الحكومات. فبحسب تران «إن حماية المودعين الكبار الذين من المفترض أن يتحملوا المخاطر هي بمثابة إنقاذ من عواقب أفعالهم، وهذه العملية تضعف انضباط السوق وترفع من المخاطر الأخلاقية». بمعنى آخر عندما تقوم الدولة بتحمّل عبء خسائر أصحاب الأموال، سواء أكانوا أصحاب مصارف أم مودعين، هذا الأمر يُحفّزهم على اتخاذ المخاطر مستقبلاً من دون النظر إلى العواقب، لأن السابقة تقول إن الدّولة ستتحمل جزءاً من أعبائهم بكل الأحوال. هذا الأمر يخلق فوضى في السوق المالية أيضاً، حيث تُصبح سوقاً «غير عقلانية»، لأنها لا تأخذ في الاعتبار المخاطر بشكل جدي.
بشكل عام، من المهم إعادة تعريف المسلّمات في النقاش الذي يخصّ تحمّل عبء الخسائر في مرحلة الحلّ. فعدا تسوية أوضاع اليوروبوندز التي لا تزال من المطلوبات المسجّلة على الحكومة اللبنانية، ليس من المسلّم به أن تقوم الدولة بتحمّل جزء من الخسائر. وإذا كان هناك طرح يتضمّن هذا الأمر، فيجب أن يُفتح مقابله نقاش أن تقوم الدولة بتحمّل جزء من الخسائر مقابل حصّة لها في المؤسسات المالية الباقية بعد عملية إعادة هيكلة القطاع.