بعد كلّ ما حصل في لبنان من انهيارات وخسائر طاولت كل شيء، لا بد من مراجعة عمل كل القطاعات، ولا سيما الخسائر التي لا تُعوّض في كل منها. أول القطاعات التي تجب إعادة النظر في طريقة إدارتها، قطاع المقالع والكسارات والمرامل وشركات الترابة المرتبطة بها. ليس على ضوء الانهيار والتفكير في كيفية التعافي من جديد فقط، بل على مستوى حجم الدمار والتشويه الذي تسبّب به القطاع بخسائر في التنوّع البيولوجي والتشوّهات التي لا تُعوّض، بالإضافة إلى خسارة الخزينة لعائدات مهمة. كل ذلك من دون أن تكون هناك استراتيجية تحدّد حقيقة الحاجات والمعطى من تنوع بيولوجي ومساحات وتوزّع سكان وسياسات مرتبطة بقطاعات مستهلكة. ثم دراسة أثر هذا القطاع على المساحات الخضراء والتنوّع البيولوجي وعلى وضعية التربة والزراعة وانزياحات الأراضي وتلوّث المياه السطحية والجوفية… كذلك آثار التشوّهات على تدهور قيمة الأراضي المجاورة والمناظر السياحية…
فإذا أخذنا في الحسبان انحسار المساحات الخضراء في لبنان وزيادة وكثافة السكان بالنسبة إلى مساحة الأرض (ما يقارب 700 شخص في الكلم2)، مع تمركز السكان في المدن بنسبة تقارب 90%، (حسب تقرير للبنك الدولي عام 2020)، من دون أية ضوابط، ما يعني زيادة غير منضبطة للمساحات المبنية وبالتالي زيادة الحاجة إلى هذا القطاع لتطوير البنية التحتية والبناء… وجب انطلاقاً من ذلك أولاً، المسارعة إلى حلّ قضايا اللجوء والنزوح واتخاذ الإجراءات لضبط الزيادة السكانية، بالإضافة إلى معالجة الهجرة الداخلية وتأمين مقوّمات العيش للأطراف، ثم مراجعة طبيعة الإنشاءات ومشاريع البناء نفسها، إن لناحية إعادة النظر في خطط النقل، أو لناحية مراجعة مشاريع ورخص البناء على أنواعها، كذلك مراجعة السياسات المائية والاستغناء عن إنشاء السدود غير الضرورية. فتشجيع النقل العام بدل النقل الخاص، كان يمكن أن يعني أيضاً خفض الحاجة إلى المزيد من شقّ الطرقات وتوسيعها وإنشاء الجسور والأنفاق. كما أن مراجعة حجم رخص البناء وما إذا كانت كلّ الأبنية مشغولة فعلاً ونحن بحاجة إلى المزيد من البناء أم لا… كلّ ذلك كان يمكنه خفض الزيادة غير الطبيعية وطفرة البناء، ولا سيما لو تم وضع ضريبة على الشقق الفارغة كما كان مقترحاً، ما يشجع على تحريكها وحلّ أزمات السكن وخفض الطلب على مواد البناء. وهذا ما يتطلّب إجراء مسح على الشقق الفارغة أولاً وملكياتها، وخصوصاً تلك المتعلقة بالمشاريع التجارية. بالإضافة إلى تشجيع تجميع الردميات ومخلفات البناء في مراكز مخصّصة على مستوى المحافظات والأقضية لإعادة تكسيرها بفقّاشات صغيرة وإعادة استخدامها في قطاع البناء، كأولوية وأفضلية على عمل المقالع والكسارات الكبيرة وتكسير وتشويه الجبال والوديان. كذلك ضبط عمليات شقّ الطرقات الجديدة أو إدارة ردمياتها بالطريقة نفسها وتجنّب تسبّبها بتدمير الوديان.
فأيّ مخطط توجيهي جديد حول هذا القطاع يفترض أن ينطلق من تحديد الطلب على المواد الأولية، بعد مراجعة رخص البناء في السنوات الأخيرة، والتراجع الكبير الذي حصل فيها، بالإضافة إلى التراجع المتوقّع في مشاريع الدولة الكبرى منها، في القطاعات كافة والتشدّد في ضبط التوسّع العمراني العشوائي. فتحديد الطلب المتوقّع في الفترة المقبلة ما بعد الانهيار أمر أساسي لناحية تحديد المخطط التوجيهي والحاجة إلى المواد الأولية لهذا القطاع، مع العلم أن المشاريع الكبرى التي كان متعهدو الدولة يتحجّجون بها لاستباحة الكثير من الجبال القريبة من الساحل مثل توسيع المطار وشق الطرقات أو توسيعها، ولا سيما الدولية منها وإنشاء السدود السطحية وغير الضرورية، مرحلة وانتهت لناحية العمل ويفترض أن لا تنتهي لناحية المحاسبة. وإذ تشير دراسة البنك الدولي عام 2017 إلى أن إجمالي شبكات الطرق في لبنان قد بلغ 705،21 كلم، بما في ذلك الطرق الدولية والثانوية، أي بمعدّل ما يتجاوز المترين من الطرق لكل كلم2 والأربعة أمتار لكل ساكن، وهي من أعلى النسب بالمقارنة مع دول المنطقة… وكلّ ذلك بسبب سوء سياسات قطاع النقل التي تعتمد على تشجيع استخدام السيارات الخاصة بدل دعم النقل العام. مع ما لهذه الطرقات، وخصوصاً في الأماكن الجبلية والوديان من أضرار على المساحات الخضراء… وقد تم إهمال كلّ الأفكار التي نصحت تاريخياً بإنشاء أنفاق بين المناطق، والاستفادة من حفرها في إنتاج مواد البناء، بدل زيادة التشويه في طرقات متعرّجة وطويلة. هذا الموضوع بالمناسبة، لم يعد يحتاج إلى دراسة أثر بيئي لشقّ كل طريق، بل تقييم بيئي استراتيجي لكلّ قطاع النقل وعلاقته بقطاع المقالع والكسارات.
يرتبط هذا الموضوع أيضاً بالقطاع الزراعي وبالحاجة أو الحجة المستخدمة في ما يسمى استصلاح الأراضي، والتي تُستغل أحياناً لاستخراج الصخور والرمل، مع العلم أن غالبية المرامل في لبنان تسبّبت باقتلاع ثروة كبيرة من الصنوبر في أكثر من منطقة. صحيح أنه تم طلب دراسة جدوى فتح باب استيراد البحص والرمل من خارج الحدود (إيدال)، إلا أن ذلك لم يخضع لمناقشة كافية ولا لتقييم استراتيجي، كما تم استبعاد دراسة خيار الاستيراد على مستوى الإسمنت أيضاً، في ضوء معلومات كانت تؤكد تصدير الإسمنت المنتَج في بعض الشركات في لبنان إلى الخارج، بالرغم من ارتفاع الكلفة على المستهلك اللبناني، ليس لناحية سعر الترابة في السوق المحلية بالمقارنة مع بلدان الجوار، بل بالرغم من الكلفة البيئية والصحية التي لم تقارن يوماً في دراسات مقارنة حيادية غير مموّلة من الشركات العاملة في القطاع.
بالرغم من كلّ ذلك، ليس في لبنان بعدُ استراتيجية شاملة وإطار تنظيمي متكامل لإدارة هذا القطاع ولا قانون إطاري ناظم! ولا تزال أعمال أكثر من 90% من هذا القطاع غير قانونية وغير نظامية!
كانت التقارير قبل عام 2019 تتحدث عن استغلال أكثر من 56 كلم2 من الأراضي لأغراض المقالع، في معظمها مشوّهة وغير قانونية. وتحدثت تقارير أخرى عن وجود 1330 موقعاً مشوّهاً، منها نشط ومنها متروك بحالة تشوّه كبيرة. مع العلم أن كل عمليات الاستخراج في هذا القطاع باتت مشوّهة وهي تُصنّف في خانة الاستنزاف لموارد غير متجدّدة، وتضرب الكثير من الأنظمة الإيكولوجية وتهدّد التنوع البيولوجي بشكل خطير جداً لا عودة فيه.
لا يتوقف الأمر عند تشويه البيئة والإضرار بالمناظر الطبيعية، فإن غبار أعمال هذا القطاع يؤدي إلى ضرب التنوّع البيولوجي في المناطق المجاورة ويتسبّب بأمراض خطيرة للسكان المقيمين بالقرب منها، بالإضافة إلى تسبّب أعمال الحفر والتفجير بتصدّعات في المباني وفي تلويث المياه الجوفية والسطحية.
قامت مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني بمسح القسم الأكبر من عمل هذا القطاع، تمهيداً لدراسته وتحديد العائدات للخزينة منه. وقد نظّمت وزارة البيئة بالتعاون مع مؤسسة هانز زايدل نهاية الأسبوع الماضي ورشة عمل لمدة يومين، عرضت فيها واقع الحال وطُرح فيها الكثير من الأفكار التي تساهم في تنظيم القطاع (واستيفاء الرسوم) ليعود ويأخذ دوره في تأمين مداخيل مهمة للخزينة وحماية التنوّع البيولوجي في لبنان. فما هي الطرق القانونية الأنسب لتحصيل المستحقات؟ وما هي العائدات الموعودة من هذا القطاع؟ وهل يمكنها أن تساهم في الخروج من الأزمة؟ للحديث صلة.