ربما لا يفي استخدام مصطلح فوضى بالغرض لتوصيف الوضع الراهن في لبنان. صار الفلتان حالة عامة على كل المستويات. في الادارات العامة والقضاء. اما حكومياً فالتراشق على خط بعبدا السراي الحكومي كفيل بالاستنتاج ان اي حكومة جديدة لن تبصر النور عما قريب وسط تقاذف المسؤوليات عن التعطيل والجهة التي تقف خلفه. وسط هذه المعمعة استمر الجدل حول مسألة الدولار القضائي المتعلق باجراء هندسات مصرفية على رواتب القضاة. وكيف يمكن تمرير مثل هذا القرار من دون العودة الى الحكومة لاقراره وهو الذي يعد بمثابة سلسلة رتب جديدة محصورة بالقضاة، وهل بات من الواجب ان يتواصل كل قطاع من قطاعات الدولة مع حاكم مصرف لبنان لتمرير شؤون القطاع المتعلق به؟ ومن قال ان الانصاف يكون بنصرة قطاع على حساب قطاعات اخرى وهل بات حق القاضي متقدماً على حق الاستاذ الجامعي والمدرسي او على موظف الدولة؟ ليس انتقاصاً من حق القاضي وإنصافه ولا من أهمية دوره ولكن لِمَ يستثني نفسه من الحرتقات السياسية وهو بات عرضة للانتقاد جراء التسيب في اتخاذ القرارات فيما الفساد نخر أسس الدولة ومؤسساتها؟ في المرة الاولى جاء اقرار السلسلة انصافاً للقضاة ولا يزال البلد حتى اليوم يدفع ثمن الخطوة غاليا، ثم كانت القروض الميسرة من حظ القضاة ايضاً في سبيل تحسين سبل عيشهم وتحصينهم، ثم كان القرار الذي سرعان ما التزمت به المصارف اليوم ليجعل السلك القضائي موضع تشكيك.
أثارت الخطوة ضجة في اروقة الادارات العامة ووزارة العدل وصار وضع الموظفين على المحك وسط الدعوة الى التوقف عن العمل. ودخل رئيس مجلس النواب على خط الازمة منتقداً «التمييز القائم بين فئة وأخرى من موظفي القطاع العام»، وداعياً الى «تصحيح هذا الأمر حتى لو اقتضى تجميده فوراً اليوم وقبل فوات الأوان»، واعتبر بري أنّ «التفاوت سيؤدي الى انهيارات أكبر من الإنهيار المالي والاقتصادي الحاصل». وفي ضوء الضجة التي أثيرت بشأنه توقعت مصادر مواكبة ان يصار بالفعل الى تجميد مفاعيل القرار في ضوء الاتصالات التي حصلت امس والانتقادات التي شملت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لموافقته على مثل هذا القرار، وحاكم صرف لبنان الذي اصدر قرارا مستقلا عن الحكومة واعتبره البعض بمثابة رشوة للقضاء تجنباً لفتح المزيد من الملفات القضائية.
وخضع القرار لتشريح المعنيين ممن سجلوا جملة ملاحظات بشأنه اهمها انه صدر من دون أي تعميم اساسي أو وسيط من مصرف لبنان وفقاً للأصول يحدد تحويل معاشات القضاة تحديداً، على سعر 8000 ليرة فيما باشرت المصارف بتنفيذه تلبية لطلب من مصرف لبنان.
وقد بدأت بعض المصارف الزام القضاة بتوقيع مستند يتيح تقاضي رواتبهم على هذا الاساس حيث حدّدت الآلية التي ستُتّبع وموافقة القاضي عليها وبأنها تبقى قائمة طالما يوافق عليها مصرف لبنان. وذكرت التحويل على السعر المذكور في التعميم 151 اي 8000 علماً بان هذا التعميم صدر أساساً لأصحاب الودائع بالعملات الاجنبية وليس حصراً للقضاة.
وتقول اوساط مالية إن القرار أفضى «الى خلق سبب لارتياب مشروع جماعي بكل دعوى او إجراء قضائي يكون أحد طرفيه اي جهة مصرفية او نقدية، وهو يحقق مفاعيل وقف كافة الاجراءات القضائية بحق المصارف ومصرف لبنان» واعتبرت ان «اجراءات تحويل رواتب القضاة على سعر صرف 8000 ينطوي على تهرب من الضريبة على الرواتب والاجور كون المكلف يصرح ويسدد الضريبة على الرواتب والاجور على اساس الراتب المصرح عنه من الخزينة فيما يتقاضى أضعافه في المصرف وتكون هذه الزيادة خارج الوعاء الضريبي للمكلف».
والمفارقة ان هذا الاجراء لم يشمل فقط رواتب القضاة ولكن شمل ايضاً كل تقديمات صندوق تعاضد القضاة لا سيما المنح التعليمية والمساعدات الاجتماعية والمرضية بحيث يستمر القضاة بتقاضي المساعدة الاجتماعية الموازية لنصف راتب بعد ان يتم تحويلها على سعر صرف 8000 ليرة هي ايضاً.
وتسبب القرار بضجة في وزارة العدل حيث هدّد الموظفون غير القضاة بالاعتكاف والتوقف عن العمل احتجاجاً على استثنائهم فيما توقف رؤساء الوحدات في وزارة المالية عن العمل. وعلم ان مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات لم يكن مرتاحاً لسير الامور داخل السلك القضائي واعتبر ان مثل هذه الخطوة لن تصب في مصلحة القضاء وسمعته. وعلمت «نداء الوطن» ان موظفي الفئة الاولى حددوا موعداً مبدئيا للقاء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الاسبوع المقبل لمناقشة سبل تأمين استمرارية المرفق العام وتحقيق نوع من التوازن في الاجور الخاصة بالموظفين.
وفي الاطار عينه طلب احد المدراء العامين موعداً من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للاجتماع مع موظفي الفئة الاولى لكن عدداً من المدراء العامين رفض الخطوة على اعتبار ان الحاكم غير مختص بالبت بشؤونهم ولا سلطة لديه على القطاع العام.
على ان السؤال الاهم يبقى من يقف خلف قرار المصارف؟ واي اتفاقية نسجت بين السلك القضائي والقطاع المصرفي ومن المستفيد؟ الحق بالإنصاف واجب ولكن العدل اساس الملك.