أعود من لبنان وأنا في حيرة من أمري، كيف يمكن لي ان أصف وحشية القيادة السياسية اللبنانية بشكل دقيق؟
بالنسبة للودائع، يبدو واضحاً الآن – بعد أن غادر رياض سلامة البنك المركزي – أن معظم النواب والعديد من أصحاب النفوذ قد حصلوا على أموالهم من البنوك قبل المودعين العاديين، في الوقت الذي كانوا يؤكدون لناخبيهم بأن ودائعهم مقدسة ومضمونة. ان الوضع الحالي أشبه بسفينة غارقة يسعى قبطانها والعاملون على متنها للقفز على قوارب النجاة بمفردهم بعد تحويل الركاب الى منطقة انتظار مصيرها الغرق، مؤكدين لهم أن المساعدة ستأتي. علماً ان هذا القبطان نفسه كان يستطيع انقاذ حياة زوجتك وأطفالك وإخوتك ووالديك، لكنه عوضاً عن ذلك، خدعهم بمكر لابقائهم على متن سفينة غارقة حتما، ليتمكن هو ومن معه، من أخذ جميع قوارب النجاة لأنفسهم بدافع الجشع المطلق.
* * *
وبواقع ان الأموال في البنوك قابلة للاستبدال وغير مطبوعة باسم أصحابها، فإن ذنب «السرقة» مخفف. وبالتالي، يعتبر السارقون انهم لم يخطئوا بنظر الله. وفي الوقت المناسب سوف يطلبون المغفرة من الله عبر رجال الدين الذين هم محتاجون بدورهم، سيغسلون خطاياهم بالتبرعات، ويصبحون محسنين للقضايا العظيمة ورعاة للفنون والثقافة. فعلاً، لا يمكن ان يكون الوضع أكثر دناءة! فالثروات المكتسبة لم تتحقق من خلال العمل الجاد والإبداع الذي يحقق فائدة للمجتمع، بل من خلال الاحتيال غير المشروع. انهم لم يسرقوا من شربل وزهرة وعيشة ومعروف او آرا.. ولكن من أناس لا أسماء لها ولا وجوه، الامر الذي «يريح ضمائرهم» فيغطون في نوم عميق لا تشوبه الكوابيس.
* * *
لقد تآمر الأوصياء («بعض» البنوك)، والمنظمون وحماة الودائع (البنك المركزي)، والمشرعون لتشريع ما هو غير أخلاقي على الاطلاق، ورفضوا تشريع قوانين كان من الممكن أن تحمي المودعين من «السارقين»، كما سمحوا للمقترضين بسداد ديونهم المصرفية بجزء صغير مما كان مستحقاً، مما زاد من استنزاف تعافي المودعين. وكانت نتيجة أعمالهم، افقار المودعين والقضاء على صناديق التقاعد، وإثراء المقترضين. بينما أكبر الخاسرين في المقام الأول، المهنيون من الطبقة المتوسطة بمختلف فئاتهم العمرية، والمتقاعدون..لا يمكن لعقارب الساعة ان تعود الى الوراء، وهذا الظلم الجسيم لا يمكن امحاؤه ابداً!
* * *
يتولى حاكمية مصرف لبنان حالياً حاكم بالإنابة، بعدما كان سلامة يتمتع بسلطة غير محدودة وحريص على الا يشرك بها نوابه الذين يزعمون انه كان يبقيهم في الظلام ولم يكونوا طرفاً في قراراته. واليوم يتوجب علينا أن نمنحهم فائدة عدم الشك مع تحميلهم المسؤولية عن أفعالهم وقراراتهم المستقبلية. وقد أعرب الدكتور وسيم منصوري علناً عن أولوياته. ويعتمد تفنيدها إلى أربع ركائز:
1) تنظيم العلاقة بين الحكومة والبنك المركزي، وفصل السياسة المالية التابعة للحكومة عن السياسة النقدية.
2) إرساء الحوكمة السليمة والشفافية في البنك المركزي، مما يستلزم تمكين نواب الحاكم وجعل دورهم فعالاً.
3) ارساء نظام مصرفي فعال حيث تكون الودائع الجديدة آمنة وتعود إلى الإقراض.
4) الحفاظ على نظامنا المصرفي في وضع جيد مع مجموعة العمل المالي (FATF).
* * *
اعتقد أن الاستقلال عن الحكومة هو الامر الأكثر ضرورة، فليس هناك ما هو أكثر تسميماً من الموقف الذي يسيطر فيه المساهم المتعثر (أو المدمن) على شركة او كيان صحي، كما كانت الحال بالنسبة للعلاقة بين الحكومة والبنك المركزي، مما تسبب في فشل نظامنا المصرفي. ان التحدي المقبل يتمحور حول ما إذا كان «الاستقلال» المطلوب تدريجياً أم فورياً. ففي حال كان تدريجياً، ماذا ستكون الاولويات؟ الأمن؟ شبكة أمان؟ استمرارية الأعمال؟
ان الحوكمة السليمة مسألة اكاديمية يتوجب ان تصمم وتنفذ بشكل مستقل لضمان ممارسة السلطة – المطلقة في حالة الحاكم – من قبل السلطات والتفويض الممنوح، من دون ان تشوهها المصالح الذاتية والتحيزات السياسية. وكان لهذا الامر أن يبدأ منذ أمس!
* * *
لا يمكن للبنك المركزي اتخاذ موقف صارم بشأن صرف الدولارات دون وجود قطاع خاص حيوي للتخفيف من الأثر. وهذا يتطلب حل الأزمة المصرفية الذي هو أمر بالغ الأهمية لنمو القطاع الخاص، وخاصة بالنسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة، اذ ان الشركات الأكبر حجماً والمستوردين لديهم امكانية الوصول إلى النظام المصرفي الدولي ويمكنهم الاقتراض وفتح خطابات الاعتماد حسب الرغبة. ومع ذلك، لا يريد الدكتور منصوري ترخيص البنوك الأجنبية إلا بعد أن تتمكن البنوك المحلية من معالجة وضعها، مما يعيق الانتعاش الاقتصادي الى ان تنتعش البنوك المتعثرة، ويبدو انه سينتظر طويلاً!! انني على ثقة من أن هناك مسالك أقصر وطرقاً عديدة تسمح للبنوك بالعمل من خلال التشريعات المناسبة، الا انه قد تمت عرقلتها من قبل جميع الأطراف التي تشل انتعاشنا الاقتصادي. إن موقفنا مع فرق العمل المعنية بالإجراءات المالية المتعلقة بغسل الأموال يعتمد أكثر على القضايا الأساسية؛ ففي حين أن نظامنا المصرفي كان في وضع جيد حتى الآن، سيكون من الصعب إثبات الامر دائماً في ظل وضع «حزب الله» ونفوذه، والسرية المصرفية القائمة، والتدخلات السياسية في البنك المركزي، وحالة القطاع المصرفي، والخط الضبابي بين السياسات المالية والنقدية، ومثل هذا المستوى العالي من الفساد الصارخ.
* * *
وتضمن تقرير الفاريز اند مارشال العديد من الخيوط التي قد لا تعيد أموال المودعين، الا ان المزيد من عمليات التدقيق ستكشف عن العديد من الأسرار وتسمح باتهام الكثيرين، علماً ان الامر قد لا يكون سهلاً! ففي ظل سيطرة رئيس البرلمان على جميع المقاليد، بما في ذلك البنك المركزي، والمعلومات التي من شأنها تجريم العديد من الشخصيات السياسية ورجال الأعمال المؤثرين، سواء من الأعداء أو الحلفاء، ثمة تساؤلات كالتالي: إلى أي مدى سيكون الدكتور منصوري ونوابه بتضارب مصالح أو مستقلين في تنفيذ مثل هذا الالتزام بتحقيق العدالة للمودعين؟ هل سيكونون انتقائيين في مهمتهم؟ هل سيسلمون النتائج التي توصلوا إليها إلى العدالة؟ هل ستكون العدالة مستقلة؟ وقبل كل شيء، هل سيتورطون في هذا المسعى وفي متاهة من شأنها أن تعرقل تنفيذ ولايتهم؟
* * *
لدى الحاكم بالإنابة والنواب فرصة ذهبية لبناء إرث تحت عنوان: «تكنوقراطيون محترفون يعملون معا بشكل مستقل عن الضغوطات السياسية، فيعدّون بنكاً مركزياً أفضل يسلمونه الى الحاكم المقبل». ندرك ان الطريق الى ذلك لن يكون سهلاً، فالقرارات صعبة ولها ثمن يتحمله البعض أكثر من الآخرين؛ الا انه في التحليل النهائي، فإن تطبيق خيارات صندوق النقد الدولي التي تفضل مصالح جيل المستقبل على حساب الجيل الحالي سيكون أمراً بالغ الأهمية، وامتلاك الشجاعة لتنفيذها يشكل الأمل الأخير لاقتصادنا.
* * *
علينا أن ندرك الآن أنه لا النفط أو الأرض أو المعجزات الإلهية يمكن أن تحل محل العمل الشاق والإبداع لمواطنينا لخلق الرخاء والثروة. يجب أن يصبح مشهدنا الاقتصادي مؤاتياً للأعمال ويسمح له بتغذية المبادرة والابتكار. وهذا يتطلب من بين أمور أخرى كثيرة، النظام، والحرية المالية، والتشريع المناسب الذي يمكن لنواب الحاكم المساهمة فيه.
أخيرا نقول إن كافة الرحلات إلى منصات الحفر والتشريعات حول الخيارات الجنسية لن تطلق العنان للنشاط الاقتصادي ولن تحد من الفساد المدمر.