ربما يتقدم مركز اليورو في التسويات التجارية والاحتياطات العالمية قليلاً في حال اشتداد تداعيات جائحة كورونا على النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية، ولكنه لن يتمكن من منافسة الدولار في المنظور القريب، رغم ما تتعرض له الورقة الخضراء من جروح خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب الحالية.
واستخدم ترامب الدولار بكثافة كأداة لمعاقبة الدول التي تعارض سياساته الشوفينية وهو ما حدا ببعضها البحث عن بديل للعملة الأميركية. ويُذكر أن اليورو تراجع، أول أمس الثلاثاء، بعد ارتفاعه إلى أعلى مستوياته مقابل الدولار في عامين.
وترى العديد من الدراسات، أن الدولار يستفيد من ست عوامل رئيسية مقارنة بالعملات الرئيسية المنافسة له في سوق الصرف والتسويات التجارية العالمية، والتي تتشكل من اليورو والين واليوان والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري.
ويرى صندوق النقد الدولي، في دراسة صدرت يوم 20 يوليو/تموز الجاري، أن الدولار لا يزال العملة المهيمنة على تسوية فواتير صفقات التجارة العالمية رغم ماتعرض له من ضغوط،. وحتى في أوروبا نفسها يسيطر الدولار على نسبة تفوق 50% من فاتورة الواردات. وفي تسوية فاتورة الطاقة وحدها تصل حصة الدولار في أوروبا نحو 240 مليار يورو سنوياً.
وحسب بيانات الصندوق في دراسته، فإن اليورو أخذ من حصة الدولار في التسويات المالية والاحتياطات العالمية حينما تم اعتماده في عام 1999، ولكن لاحقاً أصبحت نسبته في التسويات التجارية شبه ثابتة، كما أن حصته في احتياطات البنوك المركزية العالمية لا تزال تدور حول20% أو أكثر قليلاً، بينما ترتفع حصة الدولار إلى أكثر من 60%.
من جانبه، يرى رئيس معهد بيترسون للدراسات الاقتصادية في واشنطن، آدم بوصون، أن اليورو لن يتمكن من إحلال الدولار بسبب عمق السوق الأميركي، والدور المحوري الذي تلعبه الورقة الخضراء في التجارة العالمية وأسواق الصرف العالمية.
ويقول بوصون، إذا تم إحلال الدولار كعملة دولية، فإن ذلك ربما يحدث بسبب فشل القيادة السياسية في أميركا، وربما سيقود ذلك إلى تشرذم النظام النقدي العالمي الذي أسست له اتفاقية “بريتون وودز” في عام 1944 وتم بناؤه على الدولار.
وفي ذات المنحى، يرى خبراء ماليون أن اليوان لن يتمكن هو الآخر من إزاحة الدولار عن موقعه على المدى القصير أو المتوسط، رغم التقدم التجاري الصيني وضخامة سوقها الداخلي، وأن أية عمليات إحلال للدولار من قبل اليوان ربما ستأخذ عقوداً عديده.
وفي ذات الشأن، يرى معهد بروكغنز الأميركي للدراسات، أن الدولار يمتاز عن منافسيه بمجموعة من العوامل المهمة التي تمنحه السيطرة على الأسواق والتجارة العالمية، من بين هذه العوامل، وأولها استقرار سعر الصرف الدولار مقارنة بالعملات المنافسة، إذ حافظ مجلس الاحتياط الفيدرالي “البنك المركزي الأميركي”، على استقرار معدلات التضخم المنخفضة طوال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. وهذا العامل يمنح المستثمرين الأمان في أن ثرواتهم لن تتآكل بسبب التضخم وبالتالي يرفع الاستثمار في الدولار وأدواته.
أما العامل الثاني، الذي يستفيد منه الدولار في هيمنته على أسواق الصرف العالمية، فهو عمق السوق الأميركي مقارنة بالأسواق المالية الأخرى. ويقدر حجم سوق السندات الأميركية، التي تعد من أهم الأدوات المالية في العالم، بنحو 35 تريليون دولار.
والسندات الأميركية هي السندات الوحيدة التي يسهل تسييلها ولا تكلف من يشتريها عمليات تأمين عليها أو تحوط مثل العديد من السندات في منطقة اليورو وآسيا، وتمثل السندات الأميركية خزانة ضخمة للثروات العالمية والفوائض المالية وتعتمد عليها الدول والشركات الكبرى والمصارف في الحصول على عائدات دولارية ثابتة.
كما يستفيد الدولار كذلك من حجم سوق “وول ستريت” الضخم الذي تقارب قيمته السوقية نحو 30 تريليون دولار. وعلى صعيد القوة الشرائية الداخلية، تقدر القوة الشرائية في السوق الأميركي وحده بنحو 14 تريليون دولار.
أما العامل الثالث الذي يدعم مركز الدولار العالمي فهو، أن بنك الاحتياط الأميركي، هو المقرض الأخير الذي تلجأ إليه البنوك المركزية في الأزمات المالية لفتح خطوط ائتمان للحصول على السيولة الدولارية.
والعامل الرابع، أن الدولار هو عملة الملاذ الآمن في لحظات الاضطرابات المالية العالمية في أسواق المال، أو عند حدوث جائحة كبرى مثل جائحة كورونا الحالية. وفي حال الملاذ الآمن، فإن الدولار هو العملة التي يهرب إليها المستثمرون في وقت اضطرابات الأسواق.
على صعيد مستقبل اليورو الذي أثار ارتفاعه المستمر خلال الأسابيع الأخيرة وتحديدا بعد إجازة دول الاتحاد الأوروبي الـ27 لحزمة الإنعاش الأوروبي، يرى العديد من الخبراء أن تقدم اليورو حدث لأسباب طارئة، وربما لن يستمر هذا التقدم لفترة طويلة، ما لم تتحول خطوة التمويل عبر السندات المشتركة التي أقرتها دول الكتلة الأوروبية إلى سياسة ثابتة تقود إلى وحدة نقدية مثالية تشمل دول الاتحاد الـ27، وليس فقط دول منطقة اليورو الـ19.
وحتى الآن، يبدو أن مثل هذا الأمل بعيد وسط ما يدور من خلافات بين دول الشمال الأوروبي الغنية ودول الجنوب الأوروبي الضعيفة مالياً واقتصادياً.
على صعيد الاقتصاد الكلي، فإن حجم الاقتصاد في دول الكتلة الأوروبية البالغ نحو 18.3 تريليون دولار يقارب حجم الاقتصاد الأميركي، كما أن عدد سكان الكتلة الأوروبية يقارب ضعفي سكان الولايات المتحدة.
وهذا يدعم اليورو في أسواق الصرف وإصدار السندات، ولكن يرى محللون أن ما ينقص تحول اليورو إلى عملة ذات وزن أكبر في التجارة والتسويات المالية والاحتياطات العالمية، أنهليس عملة لكامل دول الاتحاد الأوروبي وإنما فقط لدول منطقة اليورو. وفي حال تحول الوحدة النقدية الأوروبية إلى وحدة مثالية تشمل جميع دول الكتلة، فإن هذا الحجم الضخم من الاقتصاد والقوة الشرائية ربما سيساهمان في تقدم مكانة اليورو عالمياً في العقود المقبلة.
ويُذكر أن المركزي الأوروبي بدأ خلال الشهور الماضية في أخذ دور أكبر في دعم اقتصاديات دول خارج منطقة اليورو خلال برنامج التحفيز النقدي الذي قدم بموجبه أكثر من تريليوني دولار في شكل خطوط ائتمان للمصارف الأوروبية. ومثل هذه الخطوات ربما ستدعم مركز اليورو مستقبلاً، إذ أنها تساهم في عودة الثقة للمستثمرين في سندات دول اليورو الضعيفة مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال.
وأصدر المركزي الأوروبي، أمس الثلاثاء، تقريره حول قدرة المصارف التجارية في منطقة اليورو على امتصاص صدمة كورونا، ودعا فيه المصارف إلى الاعتدال للغاية عند تحديد المكافآت والحوافز، من أجل المساعدة على امتصاص الخسائر ودعم الإقراض خلال أزمة فيروس “كورونا”.
وكان البنك قد دعا بنوك المنطقة، خلال شهر مايو/أيار، إلى وقف توزيعات الأرباح النقدية على المساهمين أو حملة الأسهم. ويراقب البنك 86 مصرفاً تجارياً في منطقة اليورو.
ومن العوامل التي ستدعم مكانة اليورو في المستقبل الصحة المالية للمصارف التجارية التي وصفها المركزي الأوروبي، أمس الثلاثاء، بأنها قوية في حال حدوث تداعيات خفيفة من جائحة كورونا.
كما يرى محللون، أن الخروج المبكر لاقتصادات دول الكتلة الأوروبية من أزمات جائحة كورونا، سيكون له أثر كبير على سعر صرف اليورو. وحسب البيان الصادر عن المركزي الأوروبي في فرانكفورت، بنت لجنة الاقتصاد الكلي سيناريوهات اختبار قدرة تحمّل المصارف التجارية في منطقة اليورو لتداعيات جائحة كورونا على احتمالين للنمو الاقتصادي.
أحدهما بني على احتمال تراجع الناتج المحلي الحقيقي لمنطقة اليورو بنسبة 8.7% خلال العام الجاري 2020، وأن يتمكن الاقتصاد الأوروبي من النمو بنسبة 5.2% في العام المقبل 2021، وبنسبة 3.3% في عام 2022.
أما السيناريو الأسوأ فهو احتمال أن يتراجع اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 12.6% في العام الجاري 2020، وأن ينمو الاقتصاد بنسبة 3.3% في عام 2021، و3.8% في عام 2022.
وقال المركزي الأوروبي، في تقرير الصادر أمس الثلاثاء، إن المصارف التجارية لديها القدرة على تحمّل صدمات كورونا على الاقتصادات في حال السيناريو الأول الذي يتوقع تداعيات سالبة أقل على الاقتصادات الأوروبية. أما في حال حدوث السيناريو الأسوأ، فيرى التقرير أن البنوك التجارية ربما تعاني من نفاد جزء من رؤوس أموالها.