“موازنة أفضل الممكن”: تقليدية في أسلوبها.. ثقيلة في ضرائبها

في قراءة اقتصادية لمفاعيل موازنة العام 2024 على الوضعين الاقتصادي والمالي في البلاد، وانعكاسات ضرائبها ورسومها على المواطن، يمكن الاستخلاص أن عبءها ثقيل على الطبقة الفقيرة والمتوسطة من اللبنانيين من دون أي مقابل خدماتي، لا صحياً ولا تربوياً ولا معيشياً! وكيف بالحكومة توفير العائدات لتأمين كل هذه الخدمات توازياً مع النزف المالي في مفاصل مكوّنات الدولة العليلة، إن في إداراتها المعطَّلة (كمصلحة تسجيل السيارات، والدوائر العقارية…) أم في بعض مرافقها التي تستجدي احتياطي مصرف لبنان لتغطية التكاليف (كمؤسسة كهرباء لبنان).

لكن أقصى ما يمكن وصفها هو أنها “موازنة أفضل الممكن” يقول الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور محمود جباعي، إلا أنه “يمكن تطويرها في مشروع موازنة العام 2025″.

ويرى في حديث لـ”المركزية” أن “هذه الموازنة تأثيرها محدود جداً بالنسبة إلى عملية النهوض بالوضع الاقتصادي وتطويره أو لجهة تحسين الوضع المالي، على الرغم من ضرورة وجودها”، ويُشير إلى أن “مضاعفات هذه الموازنة ستترجَم في ضعف القدرة الشرائية لدى موظفي القطاع الخاص وموظفي القطاع العام في الدرجة الأولى كونه يعاني أصلاً من انعدام قدرته الشرائية”.

وليس بعيداً، يشدّد جباعي على أنه “لا يمكن أن تستمر الدولة في التعايش مع الهدر، بدل اللجوء إلى خصخصة القطاعات غير المنتجة عبر الـBOT أو الـPPP، بما يؤدي إلى زيادة إنتاجية الدولة وتخفيف الأعباء عنها… ما يساهم في الوصول إلى موازنة إصلاحية تنهض بالاقتصاد وتُنقذ الوضع المالي والاجتماعي في البلاد مستقبلاً”. ويقول: هناك حاجة ملحّة إلى نقاش استراتيجي حول كيفية وضع الموازنات ككل في البلاد، لأنها لا تراعي الأصول المالية العلمية المنطقية العالمية، بدليل أن هذه الموازنة لا تتضمّن رؤية اقتصادية، والنفقات الاستثمارية فيها أقل من 2% من مجمل النفقات، لذلك لا تأثيرَ مباشرَ وإيجابي لها على الوضع الاقتصادي… في حين نحن في أمسّ الحاجة إلى موازنات قادرة على تحصيل الإيرادات من مكامن الهدر المرتبطة بالتهرّب الضريبي الذي يتخطّى المليار دولار سنوياً، كالتهرّب من دفع ضريبة الـTVA والتهرّب الجمركي الذي يفوّت على الخزينة عائدات تقارب المليار دولار سنوياً، والتهرّب من فرض الرسوم على الأملاك البحرية التي من شأنها أن تزيد واردات الخزينة مئات ملايين الدولارات.

ويُقرّ بأن الموازنة “افتقدت أيضاً إلى فرض ضرائب على أصحاب الثروة ورأس المال، أو على الرأسمال غير المستخدَم المعتمد في غالبية دول العالم، والتي من شأنها أن تزيد إيرادات الدولة من دون المَسّ بجيوب المواطنين ولا سيما الطبقة المتوسطة والفقيرة”، ويُضيف: عندما نقوم بوضع موازنات تحصّل هذا الكَمّ من الإيرادات، يمكن البناء عليها استراتيجياً لرفد الاقتصاد والوضع المالي في البلاد، بالدعم المالي المطلوب.

تأثير الضرائب على المواطنين..
وعن تأثير الضرائب والرسوم الواردة في الموازنة على المواطنين، يقول جباعي: على الرغم من جهود لجنة المال والموازنة النيابية في تقليص عدد الرسوم والضرائب التي كانت الحكومة وضعتها في مشروع الموازنة، للتخفيف من وطأتها على المواطن، خصوصاً أن الأخير يسدّد الضرائب من دون الحصول على أي تقديمات، نسأل أين واجبات الدولة تجاه اللبنانيين؟ كل ما يتم فرضه من ضرائب على المواطنين اليوم، هو سلبي للغاية وتأثيراته سلبية بالتأكيد على معيشة المواطن. فهم سيدفعون الضرائب على سعر صرف 89،500 ليرة بينما يحصّلون رواتبهم على سعر صرف 1500 ليرة للدولار… مع بعض زيادات على رواتب ومعاشات موظفي وعمال القطاع العام لا تتجاوز احتساب الراتب مقابل الدولار الـ15 ألف ليرة. أما المواطنون العاملون في القطاع الخاص، فهم يسددون الضرائب على الرغم من تقليص حجم الشطور الضريبية من قِبَل لجنة المال النيابية، مقابل صفر خدمات من الدولة، حيت التأمين الصحي معدوم، مع وجود فاتورتَين للكهرباء والمياه وغيرهما، إضافة إلى ارتفاع كلفة التعليم في المدارس الخاصة، كل ذلك في ظل اقتصاد مُدَولَر.

خطوة نحو الإصلاح؟
في المقلب الآخر، يعرض جباعي في إطار تطوير الموازنة في مشروع موازنة العام 2025، ثلاثة اقتراحات من شأنها جعل الموازنة خطوة أولى نحو طريق الإصلاح، وهي:

– على الموازنات المقبلة أن تراعي النفقات الاستثمارية فيها، إذ لا يجوز أن تكون أقل من 15% من مجمل النفقات. فزيادتها تساهم في زيادة الناتج المحلي وبالتالي زيادة إيرادات الخزينة، في إطار التكامل بين السياسة المالية والسياسة الاقتصادية، أي أن تصبح الموازنة رافدة للاقتصاد.

– الإسراع في اتخاذ قرار حاسم في مسألة الرقابة الضريبية. إذ لا يمكن الاستمرار في هذا النهج حيث معدل التهرّب الضريبي في لبنان تخطى نسبة الـ55 في المئة. على الدولة إذاً تكليف شركات مالية عالمية لديها نظام “رقابة ضريبيّة” حقيقي يرتبط بشبكة إنترنت داخلية، يكون مركزها وزراة المال وتطاول كل الشركات اللبنانية التي تتعاطى الشأن الاقتصادي، وهذا الأمر يمكن أن يحصِّل للدولة إيرادات لا تقل عن 1،5 إلى 2 مليار دولار سنوياً. علماً أن الناتج المحلي يتحسّن سنوياً، والقطاع الخاص يعمل بشكل واضح وفعلي حيث يسعّر كل البضائع والخدمات بالدولار الأميركي ويحقق أرباحاً طائلة من دون أن يدفع عدد كبير من الشركات الخاصة الضرائب المستحقة عليه للدولة.

– الموازنات لا تزال تعتمد اليوم على الأسلوب المالي القديم أي فرض الضرائب بشكل أفقي، وزيادة حجم الضرائب بشكل عشوائي! فالموازنات الناشئة والناجحة تصوّب نحو الهدف مباشرةً وتفرض الضرائب في الأماكن المفيدة التي ترفد الخزينة العامة بالأموال، بعيداً من تحميل الطبقة الفقيرة والمتوسطة ثقل الضرائب والرسوم.

… إن كانت موازنة 2024 قد وُلِدت “ولادة قيصريّة” من رَحِم ضرائب ورسوم بدأت تُلوِّح بأزمات اقتصادية ظهرت معالمها اليوم في سوق النفط المحلية… وكأنها ماتت في مهدها، فكيف بمشروع موازنة العام 2025 أن يحقق التطوّر الذي يأمله جباعي، في ظل الأطر ذاتها سياسياً، ومالياً، واقتصادياً… وربما أمنياً؟!

مصدرالمركزية - ميريام بلعة
المادة السابقةنصر: موظفو القطاع العام بانتظار جلسة مجلس الوزراء
المقالة القادمةالتعميم 151 يصدر اليوم: 150 دولاراً وميزانيات المصارف على سعر السوق | ألعاب «المركزي» البهلوانية… مستمرّة