موازنة المحسوبيات الضيّقة لن تُنقذ البلد

 

في ظلّ الظروف التي تعيشها الأزمة اللبنانية يبدو أنّ التعامل معها كشف فشلَ أمور هامة في النظام السياسي والمالي اللبناني، قد يكون أهمها فشل الوصول الى الرأي العام لإقناعه بضرورة التقشّف.

في هذه الحال المحرجة، وبعد فشل المفاوضات مع المقرضين الذين باتوا مقتنعين بعدم مصداقيه الدولة في الاصلاح وفشل تطبيق الاصلاحات، ما انعكس تأخيراً مضحكاً في إقرار موازنة عمليتها حسابية اقتصادية بامتياز لا توافقية بين اطراف سياسية لها اجندة عمل خاصة بها.

لقد تمّ حشد الرأي العام من خلال الاضطرابات وتسيير الاتحادات النقابية التظاهرات، وهذا الوضع صورة عن فشل النخبة السياسية في إقناع محازبيها ومناصريها بضرورة السير بالإصلاحات والتي قد تكون اليوم موجعة بعض الشيء، إلّا انه و في حال عدم حصولها ستكون موجعة بشكل مميت بما يعني انهياراً شاملاً للاقتصاد والعملة. وفي هذه الحال، تسوء الاوضاع، وتعود فينا الى العام 1984 حين ارتفع سعر الدولار بشكل أنهك القطاع المصرفي والمديونية وعملية الاستثمار.

الصورة لغاية الآن تبدو قاتمة وعلى شفير الانهيار، مع وضعية بلد يعاني من اعلى نسبة مديونية بين دول العالم، ويشهد حالة من التجاذب السياسي وانعكاس الصراعات الإقليمية وازمة نزوح سورية، وكذلك يعاني من انخفاض تدفق رؤوس الاموال من المستثمرين اللبنانيين، واختلالات باتت تنذر بالخطر إن كان في حساب المدفوعات او الحساب الجاري.

لقد طالت فترة مناقشة الموازنة، ويسعى الساعون الى توافق على الارقام دون الاخذ في الاعتبار تأثير تخفيض او زيادة ايّ رقم وانعكاسه على الاقتصاد والنمو. ويبدو انّ التفاوض غير مفهوم حول جملة امور أهمها التهرّب الضريبي والحدود المفتوحة والأملاك البحرية ووضع خطوط حمر على معاشات وتقديمات العسكريين والموظفين، كلها أمور تثير الشك حول النية في الاصلاح وحول مصداقية الموازنة وانعكاساتها ومفاعيلها.

لذلك قد تكون الإشارة الى الاسواق المالية غير مقنعة في ظل التجاذبات داخل الحكومة وفي غياب الاصلاحات المالية وتحسين مناخ الأعمال ومحاربة الفساد والتي يمكن أن تؤخر عملية سيدر و الـ 11 بليون دولار من التمويل التي تعهّد بها المجتمع الدولي في مؤتمر خاص في نيسان 2018 كذلك إعلان قطر أنها ستثتثمر 500 مليون دولار في سندات مع الحكومة اللبنانية ولم يتّضح ما إذا كان ذلك صحيحاً أو لا.

لذلك، قد تكون الفترة المقبلة صعبة وحرجة بسبب ازمة الديون والتي باتت تشكل القسم الأكبر من موازنة الدولة وما يترتب عن ذلك من ركود في مختلف القطاعات لا سيما الاستثمارية منها وزياده البطالة الامر الذي يشكل ضغطاً اضافياً على الحكومة وسوق العمل وتنعكس اضطرابات عمالية قد لا تكون محقة في خضم ما نمرّ به اليوم من أوقات صعبة.

قد يكون التركيز على الإصلاحات الهيكلية والحوافز الضريبية بدلاً من التقشف وجهة نظر اقتصادية. وحسب فرانشيسكو Casseli أستاذ اقتصاد في كلية لندن للاقتصاد، انه يجب التركيز على الإصلاحات الهيكلية بدلاً من التقشف، وقد يكون الامر صحيحاً الّا انّ مستوى الفساد والهدر والتهرب الضريبي الذي وصلنا اليه في لبنان يجعل من الصعب إجراء إصلاح هيكلي غير متزامن مع تقشف يشمل الجميع من اعلى الهرم الى اسفله ولا يستثني احداً، وضمن خطوط تعطي ذوي الدخل المحدود عناية خاصة.

من الصعب إقناع الشعب بشفافية العملية وضرورتها لذلك قد يكون من الاهمية بمكان أن تسير الامور بشفافية وبأسلوب علمي اقتصادي حسابي ودون مسايرة، فالأمور باتت خطيرة ونحن على شفير الهاوية والاقتصاد يترنّح والنموّ يتراجع والديون تتزايد. كل هذا، وهم في مجلس الوزراء يدرسون الارقام وكيفية تدويرها وهذا ما لا يلزمنا- الامر الاكيد الذي يلزمنا هو تقشف حقيقي وزيادة في الضرائب وتخفيف المخصصات وعدم استثناء احد كما سبق وذكرنا إذ إنّ الجميع متضرر بهذه العملية وانهيار البلد والعملة سيكون انعكاسه وعلى جميع دون استثناء وامور اخرى قد تكون موجعة، إلّا انها ضرورية للوصول الى نهاية النفق. والغريب مقاربتنا السياسية لأمور اقتصادية بحتة ولا تحمل الجدل ولا توجد فيها وجهات النظر لا سيما اننا امام حائط لا مفرّ منه ونهاية قد تكون وشيكة إذا لم نشدّ الأحزمة ونأخذ الامور على محمل الجد.

وإذا كان التقشف قد أظهر عدم الجدوى في اليونان ولفترة طويلة الّا اننا بحاجة ماسة اليه كوننا على مستوى عال من الفساد والهدر والمحسوبيات ولا يمكن مقارنة الامور بغير طريقة من اجل تخفيف العجز وتحفيز النمو والسير بالاقتصاد على المستوى الصحيح. واذا كانت المعالجات ستكون آنية قد نكون وقعنا في المحظور وعدنا الى الذاكرة بما حصل في العام 1984 وهي عملية خسر فيها الجميع واكثرهم العامل اللبناني والموظف العادي.

لذلك قد تكون المسؤولية جماعية والموازنة امر محسوم ان كان من ناحية الزيادة الضريبية وتخفيف المعاشات التقاعدية وإلغاء أيّ تنفيعات استفادت منها الطبقة الحاكمة ولسنين عديدة، ولن يكون ذلك الّا اذا بدأنا من الطبقة السياسية الى أبسط عامل. هكذا نحسّن الموازنة والحساب الجاري والمالي وننظّم العملية الاقتصادية، وعندها ننصرف الى التفكير في امور اخرى خارج نطاق المحسوبيات الضيقة.

بواسطةبروفسور غريتا صعب
مصدرجريدة الجمهورية
المادة السابقةرئيس الحكومة ضحية التجاذب الحاصل
المقالة القادمةالرئيس عون مطمئن الى مستقبل الوضع المالي والاقتصادي…