هي موازنة التطميش: تطميش مشكلة المدارس، وصعوبات المستشفيات، واخفاء معضلة العسكريين، والالتفاف على مأزق القضاة، والتحايل على ورطة الموظفين…هي موازنة اللفلفة: لفلفة محفزات الانتاج، وتجاهل المتأخرات ومجرد محاولة للبناء على “تكهنات” من الصعب ان تصدق وفقاً لصندوق النقد الدولي…
تتسم الاصلاحات في الموازنة الحالية بالضعف والتقشف بخجل، وتخفيض العجز الى 7 مليارات ليس الا رقماً غير واقعي. وبعد المدّ والجزر والتصارع وشدّ الحبال، أحيل “مشروع موازنة 2019” إلى الهيئة العامة لمجلس النواب، وستعقد جلسات متتالية في 16 و17 و18 تموز الجاري لإقرارها، ليتمّ الشروع فوراً بعد ذلك بالتحضير لموازنة العام 2020، وذلك عملا بالتعميم الصادر عن رئيس مجلس الوزراء، سعد الحريري، القاضي بإيداع الإدارات والمؤسسات العامة موازناتها في وزارة المال، قبل مطلع آب المقبل.
موازنة إملاءات “سيدر”
ليست الموازنة مجرد أرقام لايرادات الدولة ونفقاتها، بل انها من المفترض ان تكون خطة علمية وممنهجة لتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي؛ لكن موازنتنا الحالية تفتقر الى الرؤية الاقتصادية والى سبل خلق الوظائف والتحفيزات الاستثمارية والضريبية.
عن الموضوع يرى الاستراتيجي في أسواق البورصة العالمية جهاد الحكيّم ان “هدف هذه الموازنة كان الحدّ من العجز لاستيفاء شروط واملاءات الجهات المانحة في سيدر. من الجيد ان نضع سقفاً للعجز ولكننا بحاجة الى رؤية استثمارية تحسن الاقتصاد الحي وتستقطب الاستثمارات وهذا ما لم تلحظه الموازنة الحالية”.”ليست هذه الموازنة اصلاحية ولا هي بالتالي تقشفية ففي ظلّ رفع الفوائد لن يكون هناك جذب للاستثمارات على اعتبار ان كلفة رأس المال والكلفة التشغيلية مرتفعتان. كما أن خدمة الدين العام ترهق هذه الموازنة وسترهق الموازنات الآتية اذا ما استمر الوضع كما هو عليه. الى ذلك، ليس هناك ترشيد للانفاق ولا حتى حدّ للهدر ولا حلّ جذري للكهرباء؛ والاهم لم يلحظ أي من المسؤولين اهمية قانون المنافسة الذي يحرّر السوق ويمنع الاحتكار، كما انهم لم يعملوا بجدية لرفع تصنيف لبنان الائتماني لناحية السهولة بالقيام بأعمال. الى ذلك، في ظلّ الركود تكون الايرادات الضريبية أقلّ وزيادة الضرائب تنقل الاقتصاد من حالة الركود الى الكساد”، يضيف الحكيّم.
لم تجد موازنة 2019 حلولاً للاملاك البحرية ولا للتهرب الضريبي والجمركي، وهي الى ذلك لم تعمل على خلق رزم للحوافز الضريبية ولا لكبح التضخم وخلق نمو متوازن. من عمل على مشروع الموازنة كان همه الاول والاخير وضع سقف للعجز الذي لا يعتبر كافياً في ظل الاوضاع القاتمة.
“في ما خص القانون الضريبي فهو غير عادل على اساس ان لا عدالة ضريبية، فالاجراء يلزمون بتحمل الضرائب، اما الشركات الكبرى فتتهرب. كان من الاجدى اقرار قانون التنافسية ومن ثم العمل وفقا لقانون التخصيص وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص بعد منع المحاصصة السياسية التي تحتكر شركاتها الاسواق.
ليست المشكلة في الموازنة فقط بل ان الازمة الفعلية تكمن في هروب الرساميل من لبنان، وبسبب العجز في ميزان المدفوعات خسر لبنان اكثر من 10 مليارات دولار خلال عام ونصف العام اي القيمة المزمع تحصيلها من سيدر وهذا العجز في الميزان التجاري يصعب تعويضه”، يقول الحكيّم.
الانهيار بات وشيكاً
من جهته يعتبر رئيس “حركة مواطنون ومواطنات” في دولة شربل نحاس “اننا بتنا على شفير الانهيار والحظوظ لاعلان افلاسنا قد اصبحت اكثر من أي وقت مضى مرتفعة على نحو غير مسبوق. لذا من الضروري العمل على تجنب ذلك وانقاذ ما تبقى من مستشفيات ومدارس ومؤسسات. الموازنة ليست الا وسيلة لالهاء الناس وهدر الوقت فكل شهر تأخير منذ تشكيل الحكومة قد كلفنا ملياراً ونصف المليار دولار وهنا تكمن الخطورة الفعلية. فموازنة لأقل من خمسة اشهر ليست بتلك الاهمية التي يولونها اياها”.
جهدت الموازنة المطروحة في تخفيض النفقات لكنها في الواقع غفلت عن تفعيل دور الادارة الضريبية (حيث عمدت وزارة المالية الى مسامحة المتأخرين عن تسديد ضرائبهم او عن المتهربين بنسب لامست 50%) بينما عمدت الى فرض ضرائب جديدة لم ولن تحل المعضلة وهي ليست سوى تدابير سخيفة حصيلتها لا شيء.من جهته يرى الخبير الاقتصادي غازي وزني ان “موازنة 2019 هي موازنة رقمية حسابية لا رؤية اقتصادية – اجتماعية فيها ولا حوافز استثمارية. ويشكل البند الاستثماري 6% فقط من الموازنة العامة اي قيمة 900 مليون دولار، وهذا غير كاف للنمو الاقتصادي. وتعتمد الحكومة على مؤتمر سيدر وتعهداته لناحية نمو الاستثمار. من هنا فان النمو الاقتصادي بحسب المؤشرات الاولية سيكون ضعيفاً (0.5%) وذلك لسببين: الاول عدم مساهمة الدولة في خلق النمو، والثاني ضعف الاستثمار في القطاع الخاص”.
ويضيف وزني: “في ما خص الايرادات الضريبية فان الارقام التقديرية طموحة لكن من الصعب تحقيقها والسبب في ذلك عائد الى تباطؤ النمو الذي يؤثر على الايرادات الضريبية ، ومرور 7 اشهر من السنة المالية لاقرار الموازنة”.
“من المفترض ان تكون موازنة 2020 نقطة الانطلاق الفعلية للاصلاح المالي وهي التي سترسل رسائل ايجابية الى وكالات التصنيف اذا التزمت المواعيد الدستورية وتضمنت اصلاحات حقيقية خصوصاً في ما خصّ الحد من الدين العام وعجز كهرباء لبنان. ويمكن عندئذ ان يتجاوز لبنان الوضع الاقتصادي ويتجنب الافلاس اذا تعاطت الحكومة بجدية مع الازمة الراهنة واذا عرفت كيف تستفيد من اموال سيدر وواكبت انطلاقة التنقيب عن النفط بشفافية”، يقول وزني.
ويضيف: “اذا لم تستحِ فاصنع ما شئت”…وعليه فان الطبقة السياسية لن تستحي وبالتأكيد ستستمر في صنع ما تشاء خصوصاً وان الارقام المتداولة في مشروع الموازنة ليست الا من فبركة الراكضين خلف”سيدر” الذين اعتادوا النأي بأنفسهم وبأجورهم واستثماراتهم ومشاريعهم الخاصة وخلصوا الى أن هذا البلد فانٍ، فليكفّر اذا عن خطاياه…