موازنة سلامة: مزيد من الفقر

 

حدّدت الحكومة هدفاً لموازنة 2019 يكمن في بلوغ مؤشرات رقمية مثل عجز الموازنة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي والدين نسبة إلى الناتج… ورغم أن تنصيب هذه المؤشرات كأهداف يعدّ أمراً اعتباطياً، فقد تعهد لبنان للدائنين الدوليين في «سيدر» ببلوغها. وعند الاستحقاق، أي مشروع موازنة 2019، عقدت تحت سقف هذه المؤشرات 20 جلسة ناقشت اقتراحات بالجملة والمفرق وأنجز مشروع موازنة تقشّفية لا يستند إلى تشخيص العلّة، ويعجز عن رؤية خيارات المعالجة، بل ينطوي على تداعيات خطيرة، أولها خفض القدرة الاستهلاكية ورفع معدلات الفقر والبطالة.

أثناء مناقشة البيان الوزاري للحكومة، دار جدال واسع حول المستوى الذي يجب أن يبلغه عجز الخزينة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. الكل طالبوا بإدراج مقررات «سيدر» في البيان، أي التزام خفض العجز نسبة إلى الناتج بمعدل 1% سنوياً على خمس سنوات. يومها اعترض الوزير الطارئ على اللجنة الوزارية كميل أبو سليمان، مبرّراً بأن مقرّرات «سيدر» صدرت يوم كان عجز الخزينة نسبة إلى الناتج يبلغ 7.5%، إلا أنه ارتفع في 2018 إلى 11.5%، مقترحاً أن تكون الصيغة «ما لا يقلّ عن 1%»… لم يناقش أحد في مغزى هذا المؤشّر: لماذا على الحكومة أن تتعامل مع مؤشر كهذا على أنه هدف بحد ذاته؟ بأي خلفية؟ ضمن أي خطّة؟ أصلاً هل هو مبنيّ على تشخيص واضح ومتفق عليه لأزمة الاقتصاد اللبناني؟ هل يعلم أحد إذا كان الهدف مفروضاً على لبنان من الدائنين، أم أنها «بدعة» لبنانية نالت وعوداً بالإقراض؟

كل إجابة تقود نحو مسار مختلف عن الآخر. فإن كانت هذه المؤشرات الرقمية اقتراحاً جدياً ناقشته الحكومة اللبنانية وخلصت بنتيجته إلى تقديم التزاماتها تجاه الدائنين، فمن الطبيعي أن يصبح السؤال: لماذا اختلفوا على تطبيقه في مشروع موازنة 2019 الذي امتدّ على 20 جلسة؟ وإذا كان بلوغ هذه المؤشرات الرقمية هو عبارة عن إملاءات خارجية، فهل رضخت القوى السياسية من دون أي مفاوضات؟

يمكن استنتاج الإجابات مما حصل لاحقاً في مناقشات مشروع موازنة 2019 وما انتهى إليه من «تخبيص» على حدّ تعبير الوزير السابق شربل نحاس «لأن المشروع لا يشير إلى آلية بلوغ هذه المؤشرات الرقمية بعد مرور ستة أشهر من السنة أنفقت فيها مبالغ غير معروفة بعد، ولا الهدف الاقتصادي منها».

الأستاذ الجامعي ألبير داغر، يتبنّى نظرية مكمّلة بالمقارنة بين ما فُرض على دول الاتحاد الأوروبي مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال وسواها حيث سجل تراجع الاقتصاد بسبب مشاريع التقشف في الإنفاق العام، وبين ما حصل مع لبنان في سيدر. «فقد كان هناك تأثير كبير للاتحاد الأوروبي في هذه الموازنة التي ركّزت على خفض الإنفاق العام من دون ربطه بأزمة ميزان المدفوعات. من شروط الحصول على أموال سيدر إجراء هذا الخفض».

ما يعزّز هذا الكلام، أن الإجراءات الواردة في مشروع موازنة 2019 جاءت مبعثرة وعشوائية وبلا سياق «لأنهم لم يتفقوا على أصل المشكلة، لا في سيدر ولا في غيره، بل اتفقوا على أنه يمكن الشحادة على ظهر النازحين السوريين، والتزام خفض عجز الخزينة بما يؤدي إلى أرقام نظرية عن العجز ونسبه أملاً بأن يفتح ذلك الباب أمام حصول لبنان على قروض سيدر التي ستشتري وقتاً إضافياً يسمح بدفع المشكلة إلى الأمام» وفق نحاس.

أما لو كان هناك اتفاق على أن المشكلة تكمن في ميزان المدفوعات (الفارق بين الأموال التي دخلت لبنان وتلك التي خرجت منه)، وعلى أن معالجتها من خلال «خنق» الاستيراد للتخفيف من نزف الدولارات إلى خارج لبنان، لكان شكل الاقتراحات والنقاش في مشروع موازنة 2019 قد أخذ طابعاً مختلفاً تماماً. ففي هذه الحالة، كان النقاش «تركّز على رسم خريطة طريق للتخفيف من الاستيراد وفرض ضرائب تحقّق هذا الهدف. ولكان النقاش تطرق أيضاً إلى الفئات التي ستصيبها هذه الضرائب وكيفية حمايتها أو التخفيف من تأثيرها عليها بالحدّ الأدنى، سواء كانت قطاعات منتجة أو فئات اجتماعية»، يقول نحاس.

«عملياً، بدت هذه الموازنة كأنها تستهدف خفض نسب العجز بطريقة تضرب القطاعات أو الشرائح الاجتماعية التي ليس لديها تأثير واسع على الطبقة السياسية فتنعكس على الذين يعدّون أقل قوّة ضغط للدفاع عن حقوقهم، فضلاً عن أنها لا تعالج المشكلة الهيكلية، أي فشل الاقتصاد في خلق فرص العمل وتشجيع القطاعات الإنتاجية»، بحسب الباحث سامي عطالله.

الاستدلالات على هذه «التخبيصة» كانت واضحة قبل انتقال النقاش في الموازنة من بيت الرئيس سعد الحريري إلى مجلس الوزراء. في البدء، عقدت اجتماعات ثنائية وثلاثية بين الحريري ووزير المال علي حسن خليل، وشارك في بعضها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وكانوا يتبادلون الاقتراحات مع القوى السياسية الأخرى، إلى أن جرى التداول بورقة تتضمن خيارات أساسية: قصّ 15% من كل الرواتب والأجور في القطاع العام لتوفير مليار دولار على الخزينة، مقابل رفع ضريبة الفوائد من 7% إلى 10% لتحصيل 500 مليون دولار من كبار المودعين والمصارف.

وفي مقابل إصرار رئيس الحكومة سعد الحريري، ووزير الخارجية جبران باسيل، على هذا الاقتراح، أبلغ حزب الله المعنيين أنه يرفض المسّ بالرواتب بشكل قاطع. بضربة واحدة، كان هذا الخيار يقطع أكثر من ثلي الطريق نحو الانتهاء من الموازنة بسرعة وبلوغ المؤشرات الرقمية التي التزمها لبنان أو فرضت عليه في «سيدر».

إزاء اعتراض حزب الله، ظهرت البدائل بالمفرق. وزير المال علي حسن خليل قدّم موازنة لا تتضمن المسّ بأصل الرواتب في القطاع العام، بل تترك المجال مفتوحاً للمسّ بالملحقات، علماً بأنه أبلغ مجلس الوزراء في الجلسات الأولى أنه على استعداد لتزويدهم بكل الدراسات المالية المتعلقة بالأثر الناتج من الاقتطاع من الرواتب في القطاع العام… بعدها جاء دور وزير الاقتصاد منصور بطيش في اقتراح زيادة الرسم الجمركي على كل الواردات بمعدل 3% على أن يُخصَّص جزء من إيراداته لدعم القطاعات الإنتاجية.

في الاجتماعات الأخيرة لمجلس الوزراء، نُحّي بطيش، وتقدّم باسيل، مبرزاً ورقة فيها اقتراحات بالجملة… إلا أن اقتراح زيادة الرسم الجمركي استحوذ على نقاش واسع بعدما رفضه رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، مقترحاً زيادة الرسم بمعدل 2% على كل الواردات.

وكان لحزب الله موقف جذريّ من زيادة الرسم الجمركي، على اعتبار أنه يضرب القدرة الشرائية لكل اللبنانيين. ورأى الحزب أنه إذا كان القصد تأمين الدعم للصناعة، فالأولى أن تكون الزيادات الضريبية على المنتجات المستوردة التي لها بديل محلي. لم يدخل الحزب في نقاش على مستوى الرسم قبل حسم المبدأ، علماً بأن قيمة هذه المستوردات تبلغ 700 مليون دولار، أي إن الرسم عليها لن يجبي أكثر من 21 مليون دولار سنوياً… في النتيجة، فشل حزب الله (حتى الآن) حيث نجحت جمعية تجار بيروت بدعم قوي من وزراء التيار الوطني الحرّ ووزراء القوات اللبنانية والاشتراكي وتيار المستقبل، فأقرّ الرسم بمعدل 2%، من دون أن يكون هناك أي دعم للصناعة.

رغم ذلك، يشير عطالله إلى أن البدائل موجودة. «هناك دراسات تشير إلى أن تحسين تحصيل الرسوم الجمركية في المرفأ يتيح زيادة الإيرادات بما بين 300 و500 مليون دولار سنوياً. رسم الـ2% سيتحمّله المستهلك، فيما يمكن زيادة صادرات لبنان بقيمة 1.5 مليار دولار بسهولة. الإجراءات الموجودة في مشروع الموازنة هي محاولة لرفع الإيرادات بشكل عشوائي بصرف النظر عن تأثيرها على المستهلك وعلى القطاعات المنتجة».

المشكلة أن النقاش في مشروع الموازنة اتّجه، فجأة، صوب إيجاد بدائل تؤمن للدولة إيرادات وتزيد الانكماش، وتؤدي في الوقت نفسه إلى وقف نزف الدولارات من احتياطات مصرف لبنان. بهذا المعنى، بدأت تكرّ سبحة الاقتراحات. من أبرزها أيضاً رفع رسوم المغادرة على المطار. فمن المعروف أن اللبنانيين بدأوا يفضلون السياحة في تركيا وقبرص والدول القريبة نظراً لرخص أسعارها وتوافر «بيئة حاضنة للسياحة» فيها، ولكي يقوموا بذلك، عليهم أن يحملوا دولاراتهم إلى الخارج… فأتى رفع رسوم المغادرة ليدفعهم إلى التفكير مرتين في تمضية أيام عطلهم في الخارج.

ولم تكتمل إجراءات خنق الاستيراد عبر هذين الأمرين، بل كان مطلوباً أن تُخنق القدرة على الاستهلاك لكي يخفف بدوره من الاستيراد، بما أن النسبة الأكبر من المنتجات المستهلكة محلياً هي مستوردة. لذا، أقِرّ خفض الرواتب الإضافية في المؤسسات العامة، واقتطاع 3 في المئة من رواتب العسكريين لتمويل الطبابة والاستشفاء، وجعل الرواتب التقاعدية مشمولة بضريبة الدخل… وغيرها.

كل هذه الإجراءات تنسجم مع ما قاله قبل بضعة أشهر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عن ارتفاع الطلب على القروض السكنية بسبب إقرار سلسلة الرتب والرواتب. وهذه السلسلة حمّلها عدد من الوزراء، في جلسات بحث مشروع الموازنة، مسؤولية زيادة عدد الموظفين الذين باتوا قادرين على تمضية إجازاتهم السنوية في الخارج، وبالتالي، إخراج المزيد من الدولارات من لبنان. ما قصده سلامة والوزراء أن التوسع في إنفاق الدولة أدّى إلى زيادة الطلب على الاستهلاك المستورد والمموَّل بالعملات الأجنبية. هذه العملات تأتي إلى لبنان عبر القطاع المصرفي الذي يمنحه مصرف لبنان أدوات الإغراء لجذبها بواسطة الهندسات المالية ورفع أسعار الفائدة. وهذه العملات تصبّ في النهاية كاحتياطات أجنبية لدى مصرف لبنان، وهي قابلة للاستنزاف بسبب الاستهلاك والاستيراد.

في الخلاصة، إن الموازنة التقشّفية، التي يمكن تسميتها موازنة رياض سلامة، «ستؤدي إلى ضرب الطلب الداخلي، تماماً كما حصل في مصر حيث ارتفعت معدلات البطالة بنحو 25%. هذه بداية الطريق في لبنان نحو ارتفاع معدلات البطالة. الانكماش الاقتصادي سيمتد على أكثر من سنة، والضغوط على الرواتب والأجور لم تنته بعد، بل ستكون خيار السلطة في السنوات المقبلة»، وفق داغر.

أما عطالله، فيرجح أن يكون الأثر سلبياً على النمو الاقتصادي وعلى البطالة. «الحكومة لا تحاول تشجيع الاقتصاد على خلق فرص العمل، بل على العكس من ذلك، تحاول قتل فرص العمل الحالية وتقليص الاستهلاك، ما يعني المزيد من الفقر وارتفاع معدلات البطالة».

لبنان يخضع لشروط صندوق النقد

من المفيد التذكير بتقييم صندوق النقد الدولي لورقة لبنان أمام مؤتمر سيدر. يومها أوضح الصندوق أن لبنان يحتاج إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على الثقة ودعم استقرار الاقتصاد الكلي. واقترح زيادة معدلات ضريبة القيمة المضافة، إلغاء الإعفاءات والتخفيضات، وتحسين الامتثال، وإعادة الضرائب المفروضة على المحروقات إلى معدلات ما قبل عام 2012، ووقف دعم الكهرباء تدريجاً.

وأشار الصندوق إلى أن البرنامج الاستثماري الضخم الذي تطلقه الحكومة اللبنانية بهدف تحفيز النمو الاقتصادي، وإفادة اللاجئين والمجتمعات المضيفة… لا يمكن تطبيقه من دون تغيير السياسات المعتمدة، مقترحاً «إدراج برنامج الاستثمارات العامّة ضمن إطار برنامج أوسع يتضمّن تعديلاً/تكليفاً مالياً وإصلاحات هيكلية. إن تنفيذ سلّة من السياسات التي تتضمّن، تعديلاً مالياً يصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وإصلاحات هيكلية في قطاع الكهرباء والحكومة، بالتوازي مع تنفيذ برنامج الاستثمارات العامة، قد يحقّق نمواً أعلى ويخلق فرص عمل أكبر، وبكلفة منطقية تتماشى مع الزيادة الطفيفة في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي».

هكذا وُلدت المؤشرات الرقمية التي تبنّاها لبنان. موازنة 2019 تكاد تكون برنامجاً لصندوق النقد الدولي مع إعطاء لبنان مرونة في اتخاذ القرارات، فبدلاً من زيادة ضريبة القيمة المضافة، جرت زيادة الرسم الجمركي، وبدلاً من إطلاق مناقصات إنتاج الكهرباء، ستجري خصخصتها على نطاق واسع… والحبل على الجرار.

بواسطةمحمد وهبي
مصدرجريدة الاخبار
المادة السابقةترقُّب دولي لإثبات مصداقية الموازنة… ولبنان أمام معركة صعبة لتثبيت حدوده
المقالة القادمةخلافات موازنة “سيدر” من الحكومة إلى البرلمان إقرارها من دون قطع الحساب يعرّضها للإبطال