أصبح إقرار الموازنة ضرورة ملحّة وأولوية لا يمكن التقاعس في بتّها او إقرارها مع كل الزيادات على الرسوم الواردة فيها، لأنّ الدولة وصلت الى حائط مسدود حيث تنهار مؤسساتها واحدة تلو الاخرى، خصوصاً مع تواصل إضراب موظفي القطاع العام الذي شلّ الدورة الاقتصادية للقطاع الخاص.
منذ سنوات تتعرّض ادارات القطاع العام للانتقادات والاعتراضات بسبب ضعف فعاليتها في ظل الفساد المستشري، والمحسوبيات وتقاعس الموظفين عن أداء واجبهم الوظيفي من دون ان يكون عامل الرشوى هو الشرط الاساسي لإتمام المعاملات، فكيف اليوم بعد ان فقدت رواتب واجور موظفي الدولة اكثر من 90 في المئة من قدرتها الشرائية، وبعد ان أصبح الالتزام بالحضور لا يتعدّى يوماً في الاسبوع حتّى قبل اعلان الاضراب المفتوح؟
وبما انّ التغاضي عن إلزام الموظفين بالحضور يوميا او حتى 3 ايام في الاسبوع بالاضافة الى دفع مساعدة اجتماعية تساوي نصف راتب شهري، لم يفلحا في ثَني الموظفين عن اضرابهم، أصبح من الضروري معالجة معضلة الاجور، وتأمين التمويل اللازم لها من خلال حشد ايرادات اضافية لخزينة الدولة، وذلك كما كان يعوّل عليه وزير المالية في مشروع موازنته من خلال رفع الدولار الجمركي الى معدلات سعر صرف السوق الموازية او سعر صرف منصة صيرفة. بالاضافة الى زيادة الرسوم الاخرى، أوّلها رسوم المطار التي لا تزال تسدّدها الشركات الاجنبية على سعر الصرف الرسمي، وهو مشروع القانون الذي تبحث لجنة الاشغال حالياً به.
قبل تأمين الايرادات، لا يمكن البحث في حلّ لأزمة رواتب واجور القطاع العام. وقبل اقرار الموازنة، لا يمكن تأمين الايرادات اللازمة لتفعيل أي مؤسسة من مؤسسات الدولة المتآكلة. ولكن إقرار الموازنة لمجرّد تأمين ايرادات هو ليس بالسياسة الحكيمة المطلوبة اليوم لأنّ هذا النهج المتّبع في اقرار الموازنات منذ سنوات لمعالجة أزمة نفقات الدولة، لم يعد مجديا اليوم. لأنّ زيادة الضرائب والرسوم على اقتصاد فقد 75 في المئة من حجمه، لم تعد ممكنة.
وبالتالي، تكبيد القطاع الخاص والمستهلك اعباء مالية اضافية سيساهم في خفض حجم الاقتصاد اكثر بسبب تراجع الاستهلاك. وبالتالي، لن يوفر الايرادات المتوقعة بل سيرفع من نسب التضخم ويُفاقم المشكلة الحالية أضعافاً.
ولكن على اي سعر صرف يجب ان تحتسب ايرادات الموازنة؟ وهل سيكون سعر الصرف نفسه المحتسب للنفقات؟ هل ستمهّد الموازنة لتحرير سعر الصرف بالكامل؟ ام ان مشروع الموازنة سيكرّس تعددية سعر الصرف عبر إعطاء سلطة استنسابية للجنة مؤلفة من وزير المالية ومصرف لبنان لتحديد سعر الصرف من أجل استيفاء الضرائب والرسوم؟
يتضمّن مشروع الموازنة المُحال الى مجلس النواب عجزاً بقيمة 7 آلاف مليار ليرة، بالاضافة الى زيادة تعرفة الكهرباء (13 ضعفاً) الدولار الجمركي والضرائب (على سعر صيرفة)، رسم الطابع المالي (15 ضعفاً)، الرسوم على المياه (6 أضعاف)، الرسوم العقارية (15 ضعفاً) وغيرها من الايرادات التي يمكن ان تحلّ ازمة الدولة وتؤمّن نفقاتها، علماً انّ ارتفاع التضخم يبقى امرا متوقعا في غياب سياسة حكومية اقتصادية مالية نقدية ومصرفية، ممّا يستوجِب تخصيص احتياطٍ كبير من ضمن الموازنة، يفوق ربما رصيد الموازنة، من اجل مواكبة تقلبات سعر الصرف المستقبلية.
في هذا الاطار، اوضح الخبير الاقتصادي بيار الخوري لـ»الجمهورية» انّ مشكلة مشروع الموازنة كانت عند صياغتها، تحديد سعر صرف واضح، معتبراً انه بعد تحوّل معظم المعاملات التجارية اليوم على سعر صرف منصة صيرفة، «قد تصبح صيرفة هي السعر المعتمد في الموازنة، خصوصاً انّ سعر صرف صيرفة متحرك، ويمكن التحكّم به ليطغى لاحقاً على السوق السوداء». واشار الى انّ الايرادات التي يمكن احتسابها على صيرفة هي الدولار الجمركي والضرائب، اما الرسوم الاخرى فيستوجب تعديلها ورفعها.
ورأى الخوري انّ المشكلة الاساسية تكمن في عدم القدرة على لَجم التضخم من خلال صيرفة، مما سيؤدّي الى عدم توازن في مستوى الدخل وحجم النفقات الفعلية، وهو ما سيحصل على سبيل المثال، مع رفع الدولار الجمركي الذي سيؤدي الى تراجع الاستهلاك وانخفاض الدخل بسبب الانكماش الذي سيحصل في الطلب.
وشدّد على انه في بلد يعاني تدهورا وانكماشا اقتصاديا، لا يمكن رفع الضرائب والرسوم من دون الاخذ في الاعتبار كيفية تحفيز النمو وتعزيز الانتاج، لأن ذلك سيؤثر على التضخم.
وختم الخوري لافتاً الى انّ المسؤولين لم يستخلصوا العبر من السياسات السابقة التي انتهجوها والتي أدّت الى الأزمة الحالية، «فهم مستمرّون في معالجة الأزمة كأنها تنحصر فقط بتأمين الايرادات لسدّ نفقات الدولة، ويقومون بصياغة موازنات من دون استراتيجيات وسياسات اقتصادية ومالية لتحفيز نمو الاقتصاد وخلق فرص العمل…».