أُقِرّت أخيراً الموازنة. أقرت في أواخر الشهر السابع وما بقي أمامها سوى خمسة أشهر لإبراز صالحها من طالحها. طموح موازنة 2019 كبير لجهة تخفيض العجز! لن نصفق لها اليوم لأنها نجحت في إقناع من صوّت لها في مجلس النواب. إنما سوف نصفق لها بالتأكيد ومرات عديدة، يوم تصدر حسابات الحقل متطابقة مع حسابات البيدر، ونرى بأم العين أن الأهداف التي وضعت حُققت ولم تكن مجرد ذر رماد في العيون، وان الأمور اختلفت حقاً عن السنين الماضية. سوف نصفق لها يوم نتحقق أن العجز بالفعل وليس بالوعد (كما وعد الـ 2018 الشهير امام مؤتمري سيدر) إنحسر إلى مستوى الـ 7% وأن التوقعات لم تكن مجرد ضرب خيال أو إفراط بالتمنيات إنما مستندة إلى قراءة واقعية ومرتكزات إقتصادية.
اما وفي انتظار ذلك اليوم، يوم تثبيت مصداقيتنا أمام المحافل الدولية، بالأرقام وليس بالخطابات من على المنابر، طالعتنا أرقام أخرى، صادرة عن وزارة المالية ومتعلقة هذه المرة بالنتائج الفعلية (وليس المرتقبة أو المتمناة كتلك التي تتضمنها الموازنات) للأشهر الأربعة الأولى لسنة 2019 .
صحيح أننا فقط امام نتائج الفصل الأول للعام 2019، غير أنها كافية لاستخلاص بعض المؤشرات في ما يتعلق بالفرضيات التي بنيت عليها موازنة 2019، خصوصاً وأن ما من أعجوبة في الأفق تعزز توقعات نمو أكثر إشراقاً لجهة النمو والعائدات، لا بل ابعد من ذلك، تفرض هذه الأرقام إعادة نظر شاملة بالمقاربة الإقتصادية لفريق حاكم يعتزم قيادة المشروع الإصلاحي.
ففي قراءة أولية لنتائج المالية العامة حتى نيسان 2019 يتبين جلياً إنخفاض العائدات الضريبية من 4249494 إلى 4109232 مليون ليرة أي بتراجع -3.30%. وفي التفاصيل، التي لا تقل أهمية عن تراجع إجمالي الضرائب، تراجع عائدات الضريبة على القيمة المضافة تحديداً، حيث انخفضت من 1453710 لسنة 2018 إلى 1206922 لسنة 2019 أي بتراجع -16.98% ! وذلك، وهنا بيت القصيد، بالرغم من رفع الضريبة على القيمة المضافة من 10% إلى 11%. هل من يَذكر قرار الحكومة العام الماضي برفع الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 10% ؟! هل من يتساءل اليوم ماذا كانت النتيجة؟ الجواب أتى واضحاً، وصاعقاً، وبالأرقام.
رفع الضرائب أدى إلى تراجع في العائدات. وليس في الأمر سر، في اقتصاد يعيش حالة ركود، فرض الضرائب يأتي بنتائج عكسية، يقلص الإيرادات الحكومية عوض ان يرفعها. الأمثلة الداعمة لهذه القاعدة الإقتصادية كثيرة حول العالم وعلى مدار التاريخ. هذا طبعا لمن يريد أن يراها.
رب قائل إن انخفاض العائدات الحكومية للأشهر الأربعة الأولى من 2019 قد يكون مردّه تباطؤاً أو تعثراً في التحصيل الضريبي وليس تراجعاً في حجم المبيعات أو العائدات الخاضعة للضريبة. قد يصح ذلك، ولكن في الحالتين نحن أمام أزمة نمو حقيقية تنعكس سلباً على عجز الخزينة، ورفع الضرائب لن يؤدي سوى إلى مفاقمتها.
من المفارقة بمكان أن تصدر نتائج الفصل الأول للعام 2019، بما تحمل من دروس وعبر، يوم التصويت على موازنة 2019 ، بعد أن “ضرب من ضرب وهرب من هرب” ، ولم يعد هناك من حيز للتصويب أو حتى للنقاش. لا ننكر الجهود الملحة في الفترة الأخيرة من أجل تقليص العجز. ولكن موازنة 2019 كسابقتها، لا بل سابقاتها، تستند إلى المنطق عينه، الثابت والمترسخ، والقاضي بتغطية النفقات من خلال ابتداع ضرائب ورسوم إضافية يتضح يوماً بعد يوم عدم جدواها لا بل ضررها.
هذه حقيقة برسم كل من ساهم بإعداد موازنة الـ 2019 أو قد يساهم بإعداد موازنة 2020. معاودة المنطق عينه لن تأتي الا بالنتائج نفسها. ومن المؤسف بمكان أن يطالعنا مسؤول رفيع وخلال الجلسة العامة بمقولة “منين بدي سكرلكن العجز اذا مش من الضرايب ؟” عفوا سيدي، لكن تقليص العجز، وفي هذا الوضع تحديداً، لن يتم من خلال زيادة الضرائب، والأرقام أبلغ دليل، إنما من خلال الإسراع بالاصلاحات.