تمخّض فكر الدولة فولَّد فأراً، هو مشروع موازنة 2022. أي موازنة في ظل انهيار، من تبعاته انكماش اقتصادي وتضخّم متزايد وانهيار في سعر العملة الوطنية وتفاقم الفقر والبطالة والهجرة؟
لم تعد الحاجة إلى الموازنة مرتبطة فحسب، بكونها صكّاً تشريعياً تُقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها، أو تقديراً حسابياً محكوماً بالتوازن بين النفقات والواردات، بل أصبحت وسيلة لتنفيذ خطط التنمية المستدامة، إذ انتقل العالم العصري من موازنة التوازن إلى موازنة الأداء والبرامج التي ترتبط بمجموع النشاط الاقتصادي والاجتماعي وتوجّهه بصورة سليمة. وإخضاع موازنة عام 2022 إلى المعاينة أمر مطلوب اليوم، ولا سيما إذا كانت الأهداف المتوخّاة والمطلوبة لانتشال البلاد من قعر الانحدار الذي بلغته لغاية الآن. برأينا، الأمر مستحيل، لأن الموازنة التي أُعدّت لا تحاكي ولا تنسجم حتى مع النظام الاقتصادي السائد في لبنان المسمى حرّاً، ولأنه يقوم أساساً على عمادتين: الاستيراد والفوائد.
فالاستيراد يتم بالعملات الأجنبية، وبالتالي فإن المواد الأولية التي تدخل في الاقتصاد الإنتاجي المحلّي تُستورد بالعملة الأجنبية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى فوائد الدين العام، إذ إن قسماً منها يتم احتسابه بالعملة الأجنبية. وبالتالي فإن أسعار السلع والخدمات محدّدة على أساس العملة الأجنبية وما يقابلها من عملة وطنية. وهذا ما يؤدّي حتماً إلى الاهتزاز في مستويات الأسعار، وبالتالي في مستويات المعيشة والقدرة الشرائية للمداخيل. علماً أن 90% من اللبنانيين ما زالت مداخيلهم بالليرة اللبنانية، فيما تُحتسب أسعار الاستهلاك على أساس العملات الأجنبية. وهذا الأمر ينطبق على موازنات الأسر، وأيضاً على موازنة الدولة، إذ إن معظم مشتريات الدولة يتم تسعيرها بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف الليرة مقابل العملة الأجنبية، وخاصة الدولار، وكذلك بالنسبة إلى إيرادات الدولة التي تُحتسب أيضاً على أساس سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي ولا سيما عمليات البيع والشراء والاستيراد التي تجري بالعملات الأجنبية. لذا، فإن هذه العمليات يتم تحويلها من العملة الأجنبية إلى العملة الوطنية على أساس سعر الصرف الرسمي الذي يصدره مصرف لبنان يومياً، وعليه كانت عمليات الموازنة العامة للدولة وعمليات خزينة الدولة يتم احتسابها وقيدها في حسابات الدولة على أساس واحد هو سعر الصرف الرسمي للعملة الوطنية مقابل سعر العملات الأجنبية الذي يصدره مصرف لبنان.
إن لبنان بحاجة إلى موازنة إنقاذية استثنائية في القواعد والمبادئ والأسس والأهداف، تضمن الانتقال من موازنة البنود والاعتمادات، إلى موازنة البرامج والأداء التي تقوم على الاهتمام والتركيز على الإنجازات التي تتم وتحقيق الأهداف التنموية وتهتم بطبيعة أنشطة وأعمال الأجهزة الحكومية، وتلقي الضوء على العمل الذي تم أو الخدمة التي أُنجزت للتأكد من أن النتائج التي تحقّقت توازي ما كان مخططاً له، وأن أكلاف الخدمة أو العمل كانت مناسبة. لبنان بحاجة إلى موازنة تربط تقديرات الإنفاق بأهداف الإدارة عن طريق البرامج المخطّطة لتحقيق هذه الأهداف وربط الإنفاق الفعلي بالمستويات الإدارية المختلفة المسؤولة عن مراكز الإنفاق وطبقاً للصلاحيات المقرّرة وزيادة الدقة في تقديرات الموازنة عن طريق عناصر الإنفاق وتقديرات الاحتياجات لكل برنامج، بدلاً من تقدير إجمالي لبنود الإنفاق. لبنان بحاجة إلى تنمية الشعور لدى المستويات الإدارية المختلفة بمسؤولية الإنفاق العام وحسن استخدام الموارد المخصّصة وتأكيد أهمية متابعة الإنفاق وتقييم الإنجاز، وتوفير مقاييس أداء تساعد في الحكم على فعالية وكفاءة الأداء وتوفير المعلومات الضرورية لحساب هذه المقاييس للحكم على المردود الاقتصادي للإنفاق على الخدمات ككل.
أخيراً ، لا خير من موازنة لا تستند إلى خطة اقتصادية اجتماعية تحقق أهداف التنمية المستدامة ولا خير من سلطة سياسية لا تملك خطة لإنقاذ البلد من الموت البطيء الذي يعانيه.